يعيش العرب راهناً، نُظُماً وشعوباً ومؤسسات للمجتمع السياسي، إن وجدت، حالة أو شبه حالة من الحوار السياسي حول أعقد مسألة عامة يواجهونها، كما تتجلّى اختلافاتهم المصيرية حولها، مع الإشارة إلى ضيق هامش هذا الحوار ومحاولة النُظم العربية التضييق عليه، أو تحاشيه، أو تجاهله، أو التقليل من أهميته، وفي حالات قصوى منعه وملاحقة من يدعو إليه أو يمارسه، نعني بذلك المسألة الإشكالية التي تُفصح عن نفسها بصيغة السؤال المركّب التالي، الذي طالما طرحه ويطرحه كثيرون: ما العمل في المرحلة الراهنة، مرحلة تفكُّك العرب ومحاولة إخراجهم من التاريخ، ما الذي يتعيّن علينا أن ننجزه من استحقاقات؟ وهل تتمثل هذه الاستحقاقات في حصر الجهود في بوتقة واحدة هي (التحضير) لمقاومة (ما) للغزاة الأميركيين وحلفائهم الحاليين والآخرين المُحتملين؟ هل تتحد هذه المقاومة -فيما إذا قُرّر العمل بموجبها- في التحضير لمعركة أو لمعارك عسكرية ومسلحة نخوضها ضد المعتدين؟ أم هل تتحدد تلك الاستحقاقات في إنجاز مشروع سياسي تقف في مقدمته مسائل الديمقراطية وإعادة بناء المجتمع السياسي والمدني، بحيث يكون ذلك بمثابة القاعدة الحضارية، الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية وغيرها، للدخول -في ما بعد- في مرحلة المواجهة المباشرة للمعتدين والطامعين في أرض العالم العربي وثرواتها وقوتها الديمغرافية (السكانية)؟
إن الحوار الذي يدور علناً وضمناً في أوساط عربية وإسلامية راهنة يكاد يأخذ صيغته الرئيسية بذلك التخيير بين الأول والثاني من طرفي المعادلة، التي أتينا عليها: فإما هذا، وإما ذاك! ولعلنا نضع يدنا على ملاحظتين اثنتين يمكن أن تُسهما في التقاط إحدى خصوصيات كلّ من الطرفين المذكورين· أما الملاحظة الأولى وتتصل بوجهة نظر مَن يرى في (التحرير والمقاومة والمواجهة) منطلقاً للعمل العربي الآن، فقد تتحدد في أن هؤلاء (باستثناء المنتفضين في فلسطين والمقاومين في العراق) أقرب أن يكونوا إلى الدفاع عن النظام السياسي العربي وأبعد من طرح مسائل الديمقراطية، التي يرونها الآن غير قائمة على بساط البحث· ومن ثم، فأولئك هم أميل إلى (إرجاء) استحقاقات الديمقراطية لصالح (لمِّ الشمل الوطني) في وجه العدو التاريخي الصهيوني والاحتلال الأميركي الراهن للعراق· وقد برزت وجهة النظر هذه منذ عقود خمسة تمتد على تاريخ الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لفلسطين، وكانت تشتغل على مبدأ غدا شهيراً في الأدبيات السياسية والحزبية العربية وهو: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!
أما الملاحظة الثانية فتتعلق برأي الآخرين القائلين بضرورة تسبيق الديمقراطية على (المقاومة والتحرير)، وتقوم على القول إن إنجاز هذا الاستحقاق الأخير إنما هو طريق موضوعي شرطي يأتي بعد إنجاز الاستحقاق الآخر، الأكبر، أي الديمقراطية· وهنا، يتساءل هؤلاء عمّن سيقوم بأداء استحقاق الديمقراطية، ويجيبون: إنه الشعوب العربية الحرة من الاستبداد والقادرة على صياغة مصائرها التاريخية، وليس تلك الشعوب التي تئن تحت قبضة المستبدّين الذين يستفردون بالسلطة أولاً وبالثروة ثانياً وبالإعلام ثالثاً وبمرجعية الحقيقة رابعاً! وبهذا، فالموقف هنا يتمثل في أرجحية الديمقراطية على شؤون الدفاع والحماية والمقاومة وكل ما يدخل في هذا الحقل· ولعلنا نرى -مع بعض التحفظ والحذر- أن فرقاء من ممثلي هذا الرأي يمكن أن يكونوا ذوي نزوع إلى تسويغ (الاحتلال) أو (التحرير) من خارج على حساب القبول بالاستبداد، معلنين -ببعض الحق الخفيف- أن إزالة هذا الاستبداد لن تأتي من الداخل، طالما أن هذا الداخل محاصرٌ بقضّه وقضيضه من قبل (دولة أمنية) تطرح شعاراً لها في ضرورة أن يُفسد من لم يُفسد بعد، بحيث يصبح الجميع مُداناً وملوثاً فاسداً تحت الطلب!
إن الإشكالية المأتي عليها سوف تفصح عن نفسها من حيث هي أمر زائف خاطئ وقاصر معرفياً، إضافة إلى كونها قد تُنتج مخاطر على صُعد كثيرة ضد الوطن· ولعل الأقرب إلى الحقيقة يتمثل في النظر إلى الأمر من حيث هو موقف واحد بوجهين اثنين، كلاهما يُفضي إلى الآخر، الديمقراطية والتحرير· فالسؤال حول الديمقراطية هو كذلك سؤال حول من ينجز مهمات التحرير وكيف وضمن أية آفاق؟ وكذلك، سؤال التحرير هو سؤال حول ما إذا كانت الديمقراطية تأتي على دبابات الغزاة، أم هي فعل داخلي أولاً؟