بعد أشهر عديدة ترددت فيها الأخبار السيئة، اكتشفت إدارة بوش مصدر مشكلاتها، وقد تبين أن الديمقراطيين ليسوا ذلك المصدر، في أية حال· وليس أيضاً صدام حسين، ولا أسامة بن لادن· إنه ليس حتى بيل كلينتون · لقد تبين واتضح أن المشكلة هي وسائل الإعلام·
يقول الرئيس ان الصحافة، ولا سيما صحافة واشنطن قد خلقت مصفاة تقوم بمنع الأخبار الإيجابية الجيدة من الخروج· وهو يصر على أن القصص الإيجابية كثيرة في العراق وفي اقتصاد الولايات المتحدة: إن الأمور آخذة في التحسن، لكنك إن كنت في صفوف الجمهور، فليس مسموحاً لك أن تسمع عن ذلك· ولو تسنى لك أن تسمع عن ذلك فإنك ستشعر برضا أكبر عن الاتجاه الذي تسير عليه البلاد· هذه هي الرسالة الجديدة، رسالة الأخبار السارة، الصادرة عن البيت الأبيض والتي حملها في طول البلاد وعرضها، وقام بإطلاقها في الخطاب ومحطات التلفزيون المحلية والصحف الأصغر شأناً·
أما الدوافع هنا فليست عصية على الفهم والإدراك، فلطالما سعى الرؤساء الأميركيون إلى تجاوز نطاق صحافة واشنطن لكي ينقلوا رسالتهم مباشرة إلى الشعب· ومنذ أكثر من 80 سنة قام الرئيس وودرو ويلسون بجولة كانت فيها محطات كثيرة وقصيرة طاف فيها البلاد في محاولة لتوليد التأييد الشعبي لعصبة الأمم· وبمفردات الاسترايجيا، يتصف منهج البيت الأبيض بأنه واضح كل الوضوح، إذ إن الصحافة تأتي مباشرة في مرتبة تحت مرتبة المحامين ومحترفي التسويق الهاتفي (والتسويق عن بعد)، وكذلك تحت الفرنسيين باعتبارهم صندوق الهدايا الأثير المفضل لدى الأميركيين·
وبعدئذ تأتي فرصة الإيحاء بأن الصحافة تتكئ الى جهة اليسار في عالم السياسة، وبأنها لا تستطيع توخي النزاهة والحياد فيما تصدره من تقارير· إن هذه الحجة قد جرى طرحها للمرة الثانية في الأسبوع الماضي على لسان أم الرئيس بوش · قالت بربارة بوش لشبكة (NBC News) الإخبارية: أشعر في قرارة نفسي بأن كل وسائل الإعلام تقف ضد جورج والجمهوريين، بل ضد أي جمهوري ·
على القمة يتولد في نفس المرء شعور بالوحدة والوحشة، ولاسيما إذا كان سيئ الطالع منتمياً الى صفوف الحزب الجمهوري· لكن على رغم وجود تحالف يحشد قوته ضد الرئيس ويجمع بين القدر ووسائل الإعلام، ما زال الرئيس يواصل السير على منهجه بعناد وإصرار على رغم كل شيء، أو هكذا تقول الحكاية·
إن هذا كله شيء مثيراً للاهتمام والإعجاب، باستثناء مشكلة واحدة صغيرة: فعندما ينظر المرء ويتفرس في الحقائق، سيجد أن الحجة لا تصمد· وفي الحقيقة أن المرء، حتى الأسابيع القليلة الأخيرة، يمكنه أن يجادل بحجة مفادها أن إدارة بوش عاشت فترة خالية نسبياً من المصاعب مع الصحافة، وقد جرى التغاضي عن معظم الفضائح الكامنة التي كان من الممكن للصحافة أن تتعلق بها وتولع - أي فضائح شركات مثل إنرون و هاليبورتون وغير ذلك - وقد تغاضت عنها حتى الهيئة الصحافية في واشنطن والتي عهدناها الأكثر إصراراً ومثابرة، ولعل السبب في ذلك يعود عموماً الى أن هناك مسائل أكبر باتت على المحك منذ 11 سبتمبر·
لكن الآن، وعلى رغم رغبة الرئيس في أن يجري تداول الأنباء الجيدة السارة، ليس هناك، وببساطة، الكثير منها في الوقت الراهن، ذلك أن الفائض التجاري السابق الذي حققته البلاد انقلب الآن إلى عجز بلغ درجة قياسية، وذلك كله بفضل الاقتطاعات الضريبية التي انبرى الرئيس للدفاع عنها ومناصرتها· أما مديرو المدارس وأولياء أمور التلاميذ فيشعرون بالاستياء من الإصلاح التعليمي الذي مارس الرئيس ضغوطه في سبيله ثم قصّر بعدئذ في تمويله· والولايات الأميركية ليست أيضاً مسرورة برؤية المزيد من التكليفات الفيدرالية، التي يقتضي البعض منها الأمن الداخلي، وذلك دون أن يروا تدفق المزيد من الأموال إليهم·
وفوق ذلك كله مسألة العراق، حيث يقول الرئيس بوش ويعتقد أن الصحافة لا تقوم بنقل أنباء وتقارير عن التقدم الكبير الذي يجري إحرازه·لكن في الوقت نفسه، قال وزير دفاعه دونالد رامسفيلد في مذكرة صريحة إن من الواضح جيداً أن الولايات المتحدة وحلفاءها قادرون على إقناع الآخرين بتقديم الدعم والتأييد لكنها ستكون عملية طويلة ومحفوفة بالمصاعب ·
ومع مضي الوقت، يصبح أكثر وضوحاً ان الولايات المتحدة دخلت العراق استناداً إلى معلومات كلها عيوب وأخطاء، وهي المعلومات التي إما أنه جرى جمعها وتجميعها على نحو سيئ أو تم الجمع بينها على نحو متعمد لكي تكون مضللة·
بالطبع لا تقع على الرئيس المسؤولية التامة عن حدوث كل تلك المشكلات - على رغم أن بعضها يؤكد دون شك على مسؤوليته - غير أن ذلك هو الجانب السلبي السيئ للجلوس في المكتب البيضاوي، تماماً كما يأتي الجانب الإيجابي عندما يحصل المرء على التشريف ونسبة الفضل إليه لقاء أشياء لا تمت إليه بصلة، ولا علاقة له بها من قريب أو بعيد· وإذا كانت لدى الرئيس أية أسئلة عن هذا الوجه من أوجه المنصب الذي يشغله، فإن من الأجدر له أن يتحدث مع والده، الذي كان يتفرج على نسبة مؤيديه وهي تصل إلى حد 90 في المئة لتهوي بسرعة إلى حد 40 في