عندما يسافر المرء إلى الخارج فإن الأنباء القادمة من الوطن غالبا ما تصل إليه في شكل شذرات متقطعة· هذا ما أشعر به ولكنني لم أشعر في أي مرة من قبل أن تلك الشذرات مقطوعة الصلة بأرض الواقع، مثلما شعرت عندما سمعت ذلك التعليق الذي أدلى به بوش ، بعد مرور يوم على وقوع سلسلة التفجيرات المدمرة التي حدثت في بغداد· كان ما قاله بوش هو أن تلك الهجمات نجمت عن التقدم الذي أحرزه الاحتلال، واليأس الذي انتاب المتمردين· والرئيس بوش على حق فيما يتعلق بأن هناك تقدماً يتحقق في بعض الأماكن، بما فيها هذه المدينة الواقعة شمال العراق· ولكن حتى في هذه المدينة فإننا نجد أن التقدم الذي يحدث متقطع، وحدوثه يتوقف على ثقة العراقيين بأن الأميركيين لن ينسحبوا خلال المستقبل القريب· أما المعنى الضمني لتصريح الرئيس والذي يشير إلى أن الهجمات الأخيرة المنسقة جيدا، هي الأنفاس الأخيرة التي تلفظها معارضة يائسة، فتبدو كما هو واضح بأنها ناتجة عن تفكير رغبوي، لا يمكن أن يترتب عليه سوى تقويض ثقة العراقيين ، مع قيامه في الوقت نفسه بتضليل الشعب الأميركي حول الصعوبات التي تكتنف عملية إلحاق الهزيمة بمتمردين لا تعرف قلوبهم الرحمة·
أما الحقيقة فها هي: إن المتمردين يشنون حملة استراتيجية حقودة ناجحة تحقق -وفقا لشروطها- قدرا كبيرا من النجاح· إن ذاك النوع من التقدم الذي يسعى الرئيس بوش إلى تحقيقه، لا يمكن له أن يتحقق تحت ظروف الخطر وعدم اليقين السائد حاليا· إن ما يريده العراقيون وهم يخرجون من غياهب عقود من القمع الخانق، هو الانفتاح والتواصل الكثيف مع العالم، مع إيمان بأن هناك إمكانية في التغيير الحقيقي الهيكلي· والعاملان معا، التواصل مع العالم، والتغيير الهيكلي يجري الآن تقويضهما بشكل متعمد وناجح بواسطة الإرهاب الذي يقوم بتسديد ضربات إلى الأهداف المكشوفة، الواقعة في نقاط التقاطع بين العراقيين المتعاونين، وبين الغرباء الذين يريدون الخير لهم·
لقد عزل صدام شعبه ووضعه في سجن كبير تفرض فيه شرطته السرية الخوف· والآن نجد أن الخوف من الإرهاب يعزل الشعب العراقي بطريقة مختلفة، وذلك عندما يقوم بتخويف وصد الجزء الأكبر من المتطوعين العاملين في مجال الخدمات الخيرية والإنسانية وبناء الديمقراطية، والذين كان من المفترض أنهم يتدفقون الآن على البلد· وهذا الأمر بدوره يعري المحتلين الرسميين، الذين يجدون أنفسهم في هذه الحالة مضطرين للنأي بأنفسهم عن الناس الذين جاءوا أصلا لمساعدتهم·
لا شيء يجسد هذه الحقيقة بهذا الشكل المأساوي سوى القصر الجمهوري الذي تم تحويله إلى مقر لقوات الاحتلال في هذه المدينة (تكريت)· ففي داخل المجمع الضخم، نرى القاعات التي كانت من قبل خالية يتردد فيها الصدى وقد أصبحت تعج بالجنود والمدنيين الذين يكرسون جهودهم للمهمة النبيلة الخاصة بإعادة البناء· فالمشكلة أن هؤلاء الجنود والمدنيين يعملون خلف العديد من الطبقات الأمنية - خلف حوائط ودبابات وعلامات مكتوب عليها عبارات تحذير مثل لا تقترب··· قوة مميتة! ، بالإضافة إلى طرق اقتراب تحولت إلى طرق متعرجة محمية بالحواجز الخرسانية، إلى درجة أن هذا القصر إن لم يكن يبدو في نظر العراقيين العاديين مخيفا مثلما كان في الماضي ، فإنه على الأقل يبدو نائيا وبعيدا تماما مثلما كان· بيد أن الوضع في المدينة بشكل عام أقل توترا بكثير مما كان عليه من قبل · والسبب في ذلك هو انتخاب مجلس تمثيلي تم اختياره من قبل وجهاء كل مجموعة عرقية، ويقوم بعقد اجتماعاته يوم الاثنين من كل أسبوع للتحاور واتخاذ القرارات· وعندما تقابل الميجور جنرال (لواء) ريموند أوديرنو الذي يقود 27 ألف جندي أميركي يعملون على امتداد منطقة واسعة تشمل هذه المدينة، فإنك لا تجد صعوبة في إدراك سبب الثقة التي يشعر بها هذا الجنرال· فهناك قوات من الفرقة الرابعة المشاة واللواء 173 المحمول جوا منتشرة في كل مكان وتقوم بتنفيذ 10 غارات يوميا في المتوسط ضد المتمردين، وتعقد 10 اجتماعات يوميا في المتوسط أيضا مع الزعماء الدينيين، والسياسيين والمدنيين وزعماء العشائر· علاوة على ذلك -كما يقول الجنرال- يتزايد عدد العراقيين الذين يجيئون إلى مقر القوات الأميركية لتقديم معلومات مفيدة عن بعض الأشرار، كما أن قواته تعمل أيضا على تجفيف المنابع التي تتدفق منها الأموال التي تستخدم في الإنفاق على الهجمات الموجهة للأميركيين· وفي لقاء له مع عدد محدود من الصحفيين والأكاديميين الأميركيين منذ يومين، كرر الجنرال تقييم الرئيس بوش الذي قال فيه إن هناك تقدماً عاماً، واتفق معه على أن الهجمات التي وقعت على بغداد ربما تكون علامة على اليأس الذي حل بالمتمردين· مع ذلك فإننا نجد أن معالم الصورة متداخلة حتى في هذه المدينة· فعدد الهجمات التي وقعت على الأميركيين هذا الشهر أكبر من عدد تلك التي وقعت الشهر الماضي، والتهديدات التي يتعرض لها المترجمون وموظفو الإغاثة تتزايد، وصدام حسين لا زال يتفادى الأسر، ولازال العديد من الناس يخشونه، ويشككون في قدرة