في الوطن العربي، ومنذ صعود ظاهرة العولمة ورجوع الاستعمار الأميركي على الأخص، بدأ بعض الخطابات السياسية يبتعد عن الخطاب الوطني ويقترب شيئاً فشيئاً من الخطاب الفئوي ممثلاً في الطائفة أو الجماعة الاثنية او الجيوب الثقافية - اللغويَّة·
أنها خطابات خطرة تحمل شحنات عاطفية عبثيَّة لاصلة لها بواقع صراع القوى الحقيقية في المجتمعات· إن الملاحظات التالية تظهر تلك العبثيَّة:
فأولاً: إن أساس وروح الصراع في المجتمعات يتمحور حول صراع بين قوى تمتلك الثروة وتهيمن على مراكز السلطة وتتمتَّع بامتيازات كثيرة هي في الغالب على حساب الآخرين، وبين قوى مظلومة ومهمَّشة على كل المستويات· قد يكون أغلب أفراد تلك القوى بنوعيها ممَّن ينتمون الى طائفة أو جماعة بعينها ولكنَّ التاريخ يخبرنا بأنه لم يحدث قط أن جميع أفراد طائفة او جماعة عاشوا في بحبوحة تامة بينما جميع أفراد طائفة أو جماعة تقابلها عاشوا في ضنك عيش كامل·
ذلك أن أصحاب القوة والنفوذ لم يتردَّدوا قط في العيش على حساب الضعفاء والمهمشين من طائفتهم أو جماعتهم، كما لم يتردَّدوا قط في عقد أحلاف أو يفسحوا المجال لبعض من أفراد الطائفة أو الجماعة الأخرى لكي يشاركوهم الثروة والنفوذ وذلك على حساب الغالبية من أفراد الطائفة أو الجماعة التي ينتمون إليها· إنها معادلة عاشتها المجتمعات البشرية مهما تعدَّدت الانقسامات الدينيَّة أو المذهبية أو القبليَّة أو الاثنيّة أو الحزبيَّة فيها· فالحدود الفئوية لم تمنع الظلم من الانتشار ولم توقف الثروة والجاه من التمركز في يد القلَّة·
وثانياً: إن بعض الحالات الصَّارخة في الوطن العربي ستشرح ما نعنيه · ففي العراق سلَّطت الأضواء في السنوات الأخيرة على البطش والظلم الذي عانت منه كثير من الجماعات الشيعيَّة· واتُّهم حزب البعث الحاكم بأنه كان يمارس الطائفيَّة، إلى أن تبيَّن بأن ثلثي أعضاء الحزب كانوا من الشيعة · وإذن فالقضيَّة لم تخرج عن كونها صراعاً كلاسيكياً بين سلطة غير ديمقراطية وبين جماعة من أفراد المجتمع، أي انها لم تكن قضية طائفيَّة· والأمر نفسه ينطبق على أصوات بعض الطوائف اللبنانية التي تشتكي من التهميش والعوز· فالواقع أن بعض أعضاء تلك الطوائف هم من بين أصحاب الثروة والجاه المتسلطين على أرزاق ورقاب الآخرين سواء أكانوا من طائفتهم أو من الطوائف الأخرى·
ثالثاً : إن تاريخ الحياة السياسية في كل مكان يؤكَّد أن الطرح الفئوي لأية قضيَّة مجتمعيَّة ، كقضايا التهميش الاقتصادي أو البطالة أو التمييز في الوظائف والخدمات الاجتماعية،يؤدِّي إلى انقسام وتناحر جبهة الفقراء والمهمَّشين· وبالتالي فإن هذا الطرح لا يفيد الاَّ القوى المهيمنة التي تضُّم أصحاب الامتياز ممَّن ينتمون الى كل الجماعات الفرعيَّة في المجتمع·
إن الاستعمار و إسرائيل يتمنيان أن تطرح قضايا الظلم أو التمييز أو التهميش في المجتمعات العربية طرحاً طائفياً وفئويَّاً· والرُّد المطلوب هو أن نصرّ على طرح تلك القضايا طرحاً وطنيَّاً، و إلاَّ فإنَّ محاولات بناء الديمقراطية الوليدة ستقبر في مهدها في كل الأقطار العربية·