إن ديك تشيني أقوى نائب رئيس في العصر الحديث - بل إنه أقوى من آل غور المخضرم الذي عمل في عهد كلينتون الغر قليل الخبرة، أو من جورج بوبا بوش (الأب) الخبير في عهد ريجان · وفي الحقيقة يشار إلى تشيني أحياناً بأنه دماغ جورج·دبليو بوش أو، توخياً لمزيد من السخرية والتهكم، المتكلم من بطنه الذي يعمل لدى بوش · ولذا سيكون أمراً ملائماً أن يجري تعنيف وتوبيخ أقوى مَنْ شغل منصب نائب الرئيس في كل التاريخ الأميركي· لكن ينبغي أن يجري رفع تقرير إلى تشيني ليرى بعينه مبالغاته المتكررة في تضخيم التهديد العراقي، وأنا أشير هنا إلى تحذيره المخيف الذي نبّه فيه إلى أن صدام حسين كان يعمل على تطوير برنامج أسلحة نووية مخيف، وإلى ضرورة قيام الولايات المتحدة بفعل شيء حيال ذلك· ها نحن الآن نعلم أن ذلك البرنامج لم يكن له أي وجود·
نعلم ذلك بسبب عدم التمكن من العثور على البرنامج، ونعلم ذلك أيضاً لأن من المستحيل إخفاء برنامج كهذا، ومن أسباب ذلك إمكانية كشف آثاره في الهواء والماء· ونعلم ذلك لأن الخبراء -الأميركيين وغيرهم - قالوا الآن تلك الحقيقة· لقد أبلغوا زميلي في صحيفة الواشنطن بوست بارتون غيلمان بأن العراق ليس لديه أي برنامج ناشط لصناعة الأسلحة النووية، أو لإنتاج مواده الأساسية أو للحصول على التكنولوجيا·· اللازمة لأي من الأمرين · وذلك ما كان يعتقد بصحته منذ البداية مفتشو الأسلحة التابعون للأمم المتحدة·
لكن أولئك الخبراء لم يتعرضوا فقط للطرد على يد تشيني باعتبارهم الحمقى المفيدين لصدام حسين، بل إنهم تعرضوا بالفعل للتخويف والترهيب على يد تشيني وقد كتب جيمس روبين مساعد وزير الخارجية السابق في مجلة (Foreign Affairs) أن تشيني عندما التقى هانز بليكس ومحمد البرادعي، وهما أبرز المفتشين التابعين للأمم المتحدة، أبلغهما بكل فظاظة بأن إدارة بوش إذا وجدت عيوباً فيما يطلقانه من أحكام، فإننا لن نتردد في تشويه سمعتكما · ويبدو الآن أن تشيني نفسه بات المعرّض لتشوه السمعة·
إن نطاق الترهيب والتخويف الذي مارسه تشيني لم يقتصر فقط على مفتشي الأمم المتحدة، إذ أن انعدام صبره المترافق بالانشقاق قد عم وانتشر في أرجاء إدارة بوش ، ولا سيما وكالات الاستخبارات·
وفي صحيفة نيويوركر ، يقول سيمور هيرش في تقرير له إن تشيني كان يرفض النظر في المعلومات الاستخباراتية التي لا تلائم أفكاره وتصوراته، كما كان يستولي على التقارير التي كانت تشهد بصحة آرائه· من حيث الأساس، اختصر تشيني العملية الطويلة المضنية التي يجري فيها تدقيق المعلومات الاستخباراتية- وهو أمر تكلل بالنجاح- ودخل في عمق وكالة الــ سي آي إيه وفي غيرها لاستخراج دقائق المعلومات التي تناسب أغراضه· لكن ذلك لم يكن إلا ذهب الحمقى البرّاق، كما يقال·
بالطبع لم يكن تشيني وحيداً في هذا، بل كان إلى جانبه كل من دونالد رامسفيلد ،
و بول وولفوفيتز و كوندوليزا رايس · وقد انبرى الثلاثة، بما فيهم بوش نفسه، لإطلاق تصريحات منافية للعقل حول قدرات العراق النووية الكامنة؛ وقد قالت رايس ذات مرّة : لا نريد لدخان الدليل الدامغ أن يتحول إلى غيمة نووية · أجل لا نريد، لكننا أيضاً لا نريد مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي التي تعمد إلى قول ما يجافي الحقيقة·
لكن تشيني كان فريداً من نوعه، وفي خانة لا ينازعه فيها أحد، إذ أنه لم يكتف بأن يسحق الإجراءات الاستخباراتية التقليدية تحت قدميه - حيث ساعده في ذلك، كما تصادف، مدير وكالة سي آي إيه المذعن جورج تينيت - لا بل إنه قام مراراً وتكراراً بإصدار تحذيرات حول قدرات العراق النووية، وهي تحذيرات كان الغرض منها إثارة الذعر حول خطر لا وجود له· وقد ترك الأمور، على نحو مميز، مرهونة بحدود مطلقة· لقد قال منذ سنة: إننا نعلم، على وجه اليقين المطلق، أن(صدام حسين) يستخدم نظام مشترياته للحصول على المعدات التي يحتاج إليها من أجل تخصيب اليورانيوم اللازم لصناعة سلاح نووي ·
بل إننا لم نعلم شيئاً من ذاك القبيل، ولا على أي وجه من وجوه اليقين، المطلقة وغير المطلقة· وفي الحقيقة أن مسؤولي الاستخبارات ساورتهم شكوك مهمة حول جزم تشيني وإصراره على زعمه· ومن حيث الأساس، كانت هناك نسخة من حكايته الملفقة انتهى بها المطاف في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه الرئيس بوش · وقد صارت منذ ذلك الحين شيئاً لا ينفع·
كان تشيني طالباً في جامعة ويسكونسن أثناء حقبة فيتنام، وهو بحسب اعترافه لم ينتبه كثيراً للحركة المناهضة للحرب والتي كانت في حرم الجامعة· ولو أنه انتبه واهتم، فلربما أدرك أن الحركة كانت تأخذ أسباب القوة، ليس فقط من معارضة الحرب، بل من التلفيق المستمر والكذب الذي لا ينتهي إضافة إلى ما مارسته إدارة جونسون من تشويه وتحريف للحقائق، وقد شمل ذلك كل شيء، من تعداد الجثث وصولاً إلى نظرية الدومينو التي أصابها الخزي·
الآن أصبح تشيني لاعباً أساسياً في مسعى آخر يغم ويقبض الصدر ويهدف إلى تضليل الشعب الأميركي· وتماماً كما حدث في مسألة فيتنام، بدأت مسائل الصراح