في شهر أبريل من العام 1862 وعلى إثر تحقيق نصر دموي ساحق من أجل الاستقلال في معركة شيلوه توجه عدد من منتقدي الجنرال العسكري العربيد يوليسيس إس · جرانت، بسؤال مباشر للرئيس الأميركي أبراهام لنكولن حول السبب الذي أقعده عن فصل الجنرال المذكور من صفوف الجيش الأميركي؟ فقيل إن لنكولن رد عليهم قائلا: ليس بوسعي الاستغناء عنه، لأنه مقاتل بمعنى الكلمة· ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فقد أخبرني صديق لي في وزارة الدفاع البنتاغون عن أن هذه القصة تلقي ضوءا على السبب الذي منع وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد من الاستغناء عن خدمات الفريق أول ويليام جي· بويكن، نائب وكيل الاستخبارات، بسبب ما نسب إليه من آراء شخصية متطرفة، ربما تحسب سلبا على الولايات المتحدة الأميركية· فقد نقل عن هذا الجنرال قوله أمام إحدى الكنائس الإنجيلية إنه شبه الحرب على المتطرفين والإرهابيين الإسلاميين، بالحرب بين المسيحية والشيطان· تعليقا على ذلك نقل عن أحد المعجبين بالجنرال قوله إن بويكن ليس سياسيا على أية حال، وإن جاذبيته تكمن في كونه مقاتلا عسكريا من الطراز الأول· وهذا هو ما يرشحه لقيادة الحرب على الإرهاب، إن كان للولايات المتحدة الأميركية أن تحقق نصرا عسكريا في هذه الحرب·
ومما لا شك فيه أن لبويكن شخصية ذلك المحارب بالمعنى الحرفي للكلمة، وأن له من الشكيمة العسكرية والعزم ما يكفي لمنحه كل ذاك الحماس الذي عرف به للحرب على الإرهاب· نقل عن بويكن قوله في المكان المذكور آنفا كذلك إن أميركا إنما تحارب العدو الآن لأنها دولة مسيحية، تنازل عدوا هو الشيطان بعينه· صحيح أن الكثير من المسؤولين الحكوميين حاولوا النأي بأنفسهم أقصى ما يمكن عن آراء بويكن الشخصية المتطرفة، إلا أن عددا منهم لم يخف إعجابه بهذه التشبيهات·
غير أن مساندة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد لجنراله المتطرف هذا، ربما تستمر أو لا تستمر على المستوى الرسمي، اعتمادا على أين تهب الرياح السياسية، لصالح الجنرال أم ضده؟ ومهما يكن من أمر، فإنه ليس عسيرا أن نرى الأسباب التي تدعو رامسفيلد للتمسك والإبقاء على هذا الجنرال في صفوف الخدمة· ذلك أن رامسفيلد يبدي قلقا حقيقيا إزاء مسار ومصير الحرب الدائرة حاليا على الإرهاب· وقد اتضح هذا القلق عبر مذكرة صادرة عن مكتبه الأسبوع الماضي· فقد سمعت على لسان أكثر من متحدث واحد من مسؤولي وزارة الدفاع، أن ذلك القلق الذي تبديه البنتاغون بأسرها على مسار الحرب على الإرهاب، يجعل من الصعب جدا الاستغناء عن خدمات قائد عسكري من طراز بويكن في الوقت الراهن·
نقل عن مذكرة دونالد رامسفيلد أنه خاطب فيها مرؤوسيه، حاثا إياهم على التفكير في طرق ووسائل أخرى للإجابة القاطعة على السؤال حول ما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تكسب أم تخسر حربها التي تشنها على الإرهاب؟ وفي المذكرة نفسها تساءل رامسفيلد حول ما إذا كان قد أضحى من الضروري التفكير عمليا في إنشاء مؤسسة جديدة تصب فيها جهود مختلف الوزارات والجهات الأمنية، على أن يكون عملها الرئيسي والوحيد هو مكافحة الإرهاب· وهذه المؤسسة هي في الواقع ما يبدو أنها تستلزم وجود شخص مثل الجنرال بويكن، الذي يجب ادخاره لمثل هذه المهام ·
ولكن لم ينحصر المعنى النهائي لمذكرة رامفسيلد على هذه الهواجس وحدها· ففيها كذلك تساؤلات استراتيجية تذهب بعيدا عن دائرة ونطاق التفكير الرسمي لوزارة الدفاع، لتتساءل مثلما يفعل الجنرال بويكن· فهي تشي بتساؤلات ضمنية حول ما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تقتل وتعتقل من الإرهابيين الإسلاميين ما يؤدي لانحسارهم، أم أن المدارس ومؤسسات التعليم الإسلامية الأخرى تتفوق عليها في اجتذاب وتجنيد المزيد من الإرهابيين وتفريخهم بدلا من القضاء عليهم؟ وفي هذا ما يشير إلى بعض الأسئلة التي ظل يثيرها مسؤولون عسكريون كبار في الوزارة منذ بضعة أشهر : هل يكفي العمل العسكري وحده ضد الإرهاب؟ وهل في مقدور الولايات المتحدة الأميركية إلحاق الهزيمة بالإرهابيين الواحد تلو الآخر حقا؟ وفي ثنايا هذه الأسئلة وتضاعيفها الضمنية، تساؤلات أخرى كثيرة حول ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة الأميركية -خلافا للحرب والعمل العسكري- مما يمكن أن يكون له دور في تعزيز صورتها في العالمين العربي والإسلامي، وتحييد التطرف والإرهاب في المنطقة؟
لكن وعلى رغم وجاهة ومنطقية كل هذه الأسئلة، يظل من الصعب جدا- ربما بسبب التساؤلات نفسها- على وزير الدفاع أن يظل على تمسكه ودعمه لبقاء الجنرال المتطرف بويكن في صفوف قيادة العمل الأمني في البلاد· ففي الدفاع عن شخصية مثل بويكن، تناقض بين ما يدعو له رامسفيلد فيما يتعلق بالعمل من أجل إنجاح الحرب على الإرهاب، وبين الأفكار الشخصية للجنرال، التي تحول دون أدائه للواجبات العسكرية وغير العسكرية المطروحة والمقترحة· بل ربما أحرجت آراء الجنرال بويكن الخاصة، الولايات المتحدة كلها أمام الرأي العام العربي الإسلامي وتناقضت مع السياسات الرسمية المعلنة من قبل واشنطن، بما