كثر استخدام تعبير النيران الصديقة إبان العدوان العسكري الأميركي على العراق وفي أعقابه، واليوم نتناول نيراناً صديقة من نوع آخر أطلقتها منظمة إغاثة بريطانية على سلطة الاحتلال في العراق بخصوص واحدة من أكثر قضاياه أهمية وحساسية·
كنت قد كتبت في الثالث عشر من شهر مايو الماضي، على هذه الصفحة مقالاً بعنوان نحو صيغة قانونية لنهب الثروة العراقية أعلق فيه على مشروع القرار الأميركي-البريطاني-الإسباني الذي قدم حينذاك لمجلس الأمن لافتاً النظر إلى أبعاده الخطيرة بالنسبة لتقنين الاستيلاء على حصيلة ومبيعات النفط العراقي دون حسيب أو رقيب من الناحية الفعلية· وفي الثاني والعشرين من الشهر نفسه صدر القرار بالفعل عن مجلس الأمن برقم ·1483 صحيح أن أسوأ ما فيه قد تمثل في تقنين احتلال لم يتم بموافقة المجلس أصلاً، لكن ما تضمنه من تقنين لنهب ثروة العراق يستحق التذكير·
في الفقرة الثانية عشرة من القرار أشار المجلس إلى إنشاء صندوق لتنمية العراق يتبع البنك المركزي العراقي، وتراقب تصرفاته من قبل محاسبين عموميين يوافق عليهم مجلس للمشورة والتدقيق، وتطلع مجلس الأمن في قراره إلى الانعقاد المبكر لذلك المجلس الذي يفترض أن تشمل عضويته ممثلين للأمين العام ومدير صندوق النقد الدولي ومدير الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ورئيس البنك الدولي·
وتضمنت الفقرة الثالثة عشرة من القرار 1483 طريقة استخدام موارد صندوق تنمية العراق بتوجيه سلطة الاحتلال بالتشاور مع الإدارة العراقية المؤقتة للأغراض المذكورة في الفقرة الرابعة عشرة ، وهي الاحتياجات الإنسانية للشعب العراقي، وإعادة إعمار العراق وإصلاح بنيته الأساسية، والعملية المستمرة لنزع سلاحه!، ونفقات الإدارة العراقية، و أغراض أخرى تفيد شعب العراق، وهي عبارات تذكرنا بواحدة من أكبر عمليات استباحة موارد الشعب العراقي في الإنفاق على اللجان التي أشرفت على التفتيش على أسلحته ونزعها، وجيش الموظفين الذي خدم تلك اللجان·
لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير فطنة لتبين الثقوب الواسعة في القرار 1483 التي تتيح إساءة استخدام إيرادات تصدير النفط ومنتجاته والغاز الطبيعي من العراق، والتي نصت الفقرة العشرون من القرار على أن تودع في صندوق تنمية العراق إلى أن يتم على نحو سليم تشكيل حكومة ممثلة ومعترف بها دولياً في العراق، وكانت الفكرة أن سلطة الاحتلال لن تعدم وسيلة لتبرير تصرفاتها المالية وتمريرها من مجلس المشورة والتدقيق الذي نص القرار 1483 على تشكيله، لكن المضحك أن المجلس لم يتشكل أصلاً إلى الحد الذي دعا مجلس الأمن إلى أن يؤكد في قراره رقم 1511 الصادر في السادس عشر من أكتوبر الجاري في فقرته الثالثة والعشرين على وجوب تشكيل مجلس المشورة والتدقيق، واعتبار ذلك من قبيل الأولويات، ويعيد التأكيد في القرار نفسه على أن تتم استخدامات صندوق تنمية العراق على نحو يتسم بالشفافية·
في هذا السياق القانوني نستطيع أن نفهم الاتهامات التي وجهتها منظمة الإغاثة البريطانية المرموقة كريستيان ايد لسلطة احتلال العراق، والمتمثلة في عدم كشفها مصير بلايين الدولارات المخصصة لإعمار العراق، وذكرت المنظمة في تقرير لها أن سلطة الاحتلال كشفت عن إنفاق بليون دولار من أصل خمسة بلايين تسلمتها لإعادة إعمار العراق، ولم تعلن مصير البقية، وأعربت المنظمة عن اعتقادها بأن اختفاء هذه الأموال يزيد من الشكوك حول حصول شركات أميركية عليها سراً لتنفيذ عقود خاصة بمرافق البنية التحتية في العراق·
وقد تكونت تلك البلايين الخمسة موضع الاتهام من متبقيات برنامج النفط مقابل الغذاء (مليار واحد)، وأرصدة عراقية كانت مجمدة أثناء حكم صدام حسين (ملياران ونصف المليار) وايرادات من بيع النفط العراقي (مليار ونصف)، وقدرت منظمة كريستيان ايد أن متحصلات الصندوق ستبلغ بنهاية العام الحالي تسعة بلايين دولار معظمها من إيرادات النفط· بطبيعة الحال نفت سلطة الاحتلال ذلك كله، وأكدت على التزامها الراسخ بأعلى مستويات الشفافية في إدارة الأموال في العراق، وأعلنت أنها ترحب بالإعلان عن تشكيل هيئة التدقيق قريباً، و تأمل في أن تكون لها صلاحية محاسبة الشركات الأميركية·
تأملت في دلالات هذه الفضيحة إلى حد ما وفق التعبير الطريف لمدير عمليات منظمة كريستيان ايد · خطر لي أولاً أن المبادرة بإثارة الموضوع جاءت من منظمة بريطانية تنتمي للمجتمع المدني في بلد يشارك في احتلال العراق، وهو ما يثير الاحترام والإحباط في آن واحد: الاحترام لمجتمعات قد تنحرف حكوماتها في سياساتها لكن تكوينها -أي تلك المجتمعات- ينطوي على مؤسسات قادرة على تصحيح المسار ولو بعد حين، الإحباط لأن الموضوع يمثل شأناً عربياً بالأساس كونه يتعلق بتبديد ثروة شعب عربي على هذا النحو، ومع ذلك فقد غابت المبادرة العربية بإثارة الموضوع ليس فقط على الصعيد الرسمي وإنما على الصعيد غير الرسمي أيضاً، مع أن احتلال العراق والتنظيم القانوني لهذا الاحتلال على النحو الوارد في القرار 1483 لم