يخطئ كثير من الناس بين توفر الأنشطة المالية والتنمية، حيث يعتقدون أن النشاط التجاري المتنامي دليل عافية للمجتمع، والحقيقة أن الوفرة المالية لا تعني اقتصاداً قوياً ولا تنمية بشرية· المال في النهاية ليس سوى نقود تشتري بها متعاً دنيوية، لكنه لا يصنع عقلاً ولا بشراً ولا تعليماً· لذلك يجب الاهتمام بالإنسان أولاً وأخيراً· ما الفائدة من امتلاء الجيوب بالمال في حين أن الحرية السياسية منعدمة؟ وهذه هي مشكلة العرب اليوم حيث يعتقدون أن السياسة هي التي خرّبت الحياة العربية، وأنه حان وقت الاهتمام بالاقتصاد والمشروعات المالية بدلاً من السياسة، وهم بذلك واهمون·
السياسة هي التي تصنع الاقتصاد وليس العكس· القرار السياسي السليم هو الذي يؤدي إلى نشاط اقتصادي فاعل· الحرية السياسية تمثل المدخل -كما يفترض- للحرية الاقتصادية، لكن قراراً اقتصادياً يتم من خلال الاستبداد أي احتكار السلطة، لن يؤدي إلى التطور والتنمية البشرية والمدنية· صحيح أن للاستبداد بصناعة القرار فوائده حيث تنخفض الجريمة وتقام المشروعات الاقتصادية وتدخل الأموال إلى جيوب الناس، لكن ليُعلم أن جيوب المستبد ستكون أكثر انتفاخاً بالمال من الآخرين، وسيكون له نصيب الأسد في المشروعات القائمة، وإذا لم يكن هناك قرار سليم بشأن التركيبة السكانية سيضيع ابن البلد ويصبح أقلية في وطنه بما يتداعى على ذلك من مشكلات اجتماعية ووطنية لا حصر لها·
التنمية الحقيقية هي التنمية البشرية وليس بملء جيوب الناس بالمال· ما هو مستوى التعليم ومخرجاته، وما هو مستوى البطالة؟ هل المواطن مؤهل فعلاً لإدارة البلد أم أنه يترك ذلك للأجنبي ويقوم هو بدور المحصل المالي؟ لذلك قيل: البشر قبل الحجر· يستشهد الكثيرون بسنغافورة وتقدمها الاقتصادي، لكن ألم تتعرض هذه التجربة للانهيار؟ ثم ما هو الدور العالمي لسنغافورة؟ نحن في الخليج وصلنا للأسف إلى مستوى ضحل فكرياً حيث أصبح يهمنا المركز التجاري أكثر من المدرسة، وأن تتوفر بضائع استهلاكية نحصل عليها عن طريق القروض، لكن لا نهتم لأرقام البطالة التي تعصف بمجتمعنا، ولا للفقر الضارب بأطنابه في أركان حياتنا· الطبقة المتوسطة تآكلت وأصبحت تعيش على القروض، وانتشرت الرشوة بفعل انخفاض القيمة الشرائية للمرتبات· ونفقد شبابنا في حرب الشوارع، وتتنامى وتيرة الفوارق الطبقية في المجتمع بصورة لم نعها جيداً حتى الآن· على رغم هذا البلاء تتزايد الأموال الناتجة عن التجارة والمشروعات الاقتصادية في بلداننا، فهل نحن من الرابحين أم الخاسرين؟
لا شك أننا خاسرون في مجال التنمية البشرية، وكل التقارير الدولية تؤكد تراجع الحريات في العالم العربي، وتزايد الفقر لأكثر من 40 في المئة من الشعوب العربية، وللأسف لا نملك خططاً تنموية للمستقبل، وسنجد أنفسنا في القريب العاجل عاجزين عن تمويل المرتبات الشهرية· هذا هو التحدي الحقيقي، وليس مجرد توفر المال· وليعلم الجميع أن إسرائيل أغنى مالياً من أية دولة عربية غنية، لكن مشكلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أفضل بكثير من جميع الدول العربية مجتمعة·