بذلت كل من الولايات المتحدة الأميركية والمجلس العراقي الحاكم مجهودات كبيرة وجبارة خلال مؤتمر الدول المانحة للعراق الذي عقد في الثالث والرابع والعشرين من أكتوبر الجاري في العاصمة الإسبانية مدريد، في سبيل إقناع تلك الدول بتقديم منح مالية سخية مساهمة منها في إعمار العراق· وكان ذلك النداء قد حظي بدعم وموافقة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان·
وعلى رغم أنه ما من دولة من الدول المشاركة في المؤتمر، كانت على أتم الوضوح فيما يتعلق بالمبلغ الذي ستقدمه لعملية إعمار العراق، إلا أن النتيجة التي أسفر عنها المؤتمر هي تخصيص مبالغ مالية من قبل هذه الدول في شكل قروض ومنح وائتمانات تصديرية تصل في مجملها إلى حوالى 12,7 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، الممتدة بين 2004 و·2008 من هذا المبلغ أعلنت اليابان تعهدها بتقديم خمسة مليارات دولار، المملكة العربية السعودية مليار دولار، الكويت 500 مليون دولار، دولة الإمارات العربية المتحدة 200 مليون دولار، بينما وعدت الدول الأوروبية بتقديم 800 مليون دولار· هذا وستأتي هذه الميزانية في مجملها من كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي· يضاف إلى المبالغ المذكورة مبلغ 20,3 مليار دولار، وعدت به الولايات المتحدة الأميركية· وبذلك يصل المبلغ الإجمالي إلى حوالى 33 مليار دولار· هذا مبلغ كبير ومعتبر دون شك، غير أنه يقصر كثيرا عن مبلغ الـ 56 مليار دولار الذي يقدر الخبراء أن العراق سيحتاجه خلال الخمس سنوات القادمة لتمويل إعمار بنيته التحتية الأساسية· ومما لا شك فيه أيضا أن تردد المانحين يعكس الكثير من العقبات والمصاعب التي لا تزال تعترض طريق عودة العراق إلى أوضاعه الطبيعية عقب الدمار الذي تعرض له جراء الحرب والعقوبات الدولية المفروضة عليه· وعند تأمل هذه المصاعب والعقبات فإننا نجد أنها تندرج ضمن الفئات الأربع التالية:
أولا العقبات الأمنية: فلا يزال العنف المهدد للحياة مظهرا عاديا من مظاهر الحياة اليومية في العراق، علما بأنه ينشأ عن مصدرين اثنين: العمليات والهجمات المدبرة والمتقدمة التي تنفذ يوميا ضد القوات الأميركية، حيث تقع بمعدل عشرين إلى خمس وعشرين عملية يوميا، ثم العنف الدموي الناشئ عن أعمال السرقة وإطلاق النار وعمليات الخطف وسرقة السيارات التي تنفذها العصابات الإجرامية التي تروع المواطنين المدنيين، وتأخذ أرواح العديدين منهم· وتحت وطأة هذه الظروف فما أقل شركات الاستثمار التي تبدي رغبة في إرسال موظفيها إلى منطقة تعاني كل هذا الاضطراب الأمني· وعلى إثر الهجوم الذي تعرضت له المكاتب الرئيسية التابعة للأمم المتحدة في بغداد، فكم يا ترى من المنظمات الدولية ستبدي عزما حقيقيا على العودة واستئناف عملها ونشاطها هناك؟ وبدلا من المنظمات الجادة التي تحتاجها فعليا عملية إعمار العراق، بدأت تتوافد إلى هناك الشركات والمؤسسات المالية المغامرة التي تدخل سريعا لاغتنام فرصة ربحية سريعة، ومغادرة البلاد بأسرع مما دخلت· كما تحول العراق أيضا إلى قبلة للكثير من الشركات الأمنية التي تعرض خدمات توفير الحماية الشخصية للأفراد وغيرها من أشكال الخدمات الأمنية·
خلال مؤتمر مدريد الأخير، حاول الممثلون الأميركيون والعراقيون إقناع المشاركين بفكرة أن عملية الإعمار بحد ذاتها ستساعد في توفير الظروف الأمنية المستقرة وإعادة الحياة اليومية إلى طبيعتها· لكن وبهذا القول ربما تكون الولايات المتحدة والمجلس العراقي الحاكم قد حاولا وضع العربة أمام الحصان· ذلك أن غالبية المتابعين والمراقبين للمشهد العراقي يقولون العكس، أي أن الأمن يأتي قبل إعادة الإعمار· هذا عدا عن أن القليلين جدا يرون أنه سيكون في مقدور الولايات المتحدة فرض الأمن هناك في المستقبل القريب المنظور·
وتقوم هذه الشكوك على الاعتقاد بأنه من الصعوبة بمكان أن تتمكن الجيوش التقليدية مهما بلغت قوتها، من هزيمة مقاتلي حرب العصابات، سيما إن كانت الأخيرة تحظى بتأييد شعبي· وقد اتضح ذلك أحسن ما يكون الوضوح خلال حرب الاستقلال الجزائرية، وأمثلة أخرى من بينها تجربة الجيش الروسي في إقليم الشيشان وتجربة الجيش الإسرائيلي في لبنان وكذلك في المناطق الفلسطينية المحتلة·
ثانيا الشرعية السياسية: وهذه أيضا إحدى العقبات الكبيرة التي تقف في طريق إعادة إعمار العراق، أعني تمسك وإصرار الولايات المتحدة على الانفراد بالسيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية على العراق· نتيجة لهذا الموقف، فإن المجلس العراقي الحاكم الذي أتت به عقب الحرب، تحيطه الشكوك من كل جانب فيما يتعلق بشرعيته السياسية التي تؤهله لحكم البلاد· وكما جاء في حديث كريس باتن مفوض الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي في مؤتمر مدريد الأخير: لن يكون بوسعكم أن تتوقعوا أن يتحمس دافع الضريبة الأوروبي كثيرا لإنفاق كل هذه المبالغ الطائلة على عملية إعمار العراق، وهو الذي أبدى كل ذلك التذمر والمعارضة على التدخل العسكري وشن الحرب أصلا·
إلى ذلك اعتبر العديد من الدول الأور