في خضم عناوين الأخبار اليومية حول الفوضى في العراق، والخطب المسجّلة التي ألقاها علينا صوت أسامة بن لادن وأطال فيها تقريعنا، من السهل أن تعمى أبصارنا عن النزعة الأقوى والأشد تأثيراً، والتي تسري في العالم اليوم: تسارع خطوات العولمة الاقتصادية• كانت قوة العولمة واضحة أثناء جولة الرئيس “بوش” التي طاف فيها على بلدان آسيا• وقد بدأت رحلته باليابان، وهو البلد الذي يبدو أنه أخيراً آخذ في التعافي من آثار ركود اقتصادي دام عقداً كاملاً• ويعود الفضل في ذلك عموماً إلى حقيقة أن قوى السوق ماضية في نسف حالة القصور وجدران الحماية التي احتجزت الاقتصاد الياباني في حالة أشبه بالموت• وقد أتى أحد الأمثلة على عملية التعافي الياباني المؤلمة في مقالة حديثة نشرتها مجلة “بيزنيس ويك” وأتت بعنوان: “الرد على ضغوط السوق الدولية”• وقد ورد فيها أن شركة “ماتسوشيتا” العملاقة قامت، منذ عام ،2000 بإغلاق 30 مصنعاً لها حول العالم وبتقليص عدد عمالها اليابانيين بمقدار 20%• وقد ارتفعت أرباح الشركة بمقدار 27% في معظم فترة الربع الأخير من السنة• وقامت شركة “توراي”، وهي أكبر شركة في اليابان لانتاج الأقمشة الصناعية، بتقليص تكاليف الانتاج بمقدار 120 مليون دولار على مدى السنة الماضية، كما نقلت الكثير من الوظائف إلى الصين؛ وقد ارتفعت أرباحها بمقدار 23% في معظم فترة الربع الأخير من السنة•
وتقلص قطاع المصارف اليابانية الذي كان ذات يوم مصاباً بالانتفاخ تقلصاً كبيراً: ففي عام ،1987 كان هذا القطاع يشكل 24% من رأسمال السوق الإجمالي في البورصات اليابانية؛ وفي أبريل، صار يمثل فقط 2,3 في المئة، وفقاً لما ورد في مجلة “بيزنيس ويك”• وهكذا صار الرأسمال الأجنبي أخيراً يحظى بالترحيب• كان الأجانب لا يمتلكون سوى 9% من الأسهم التي يجري تبادلها في بورصة طوكيو في عام ،1989 لكنهم اليوم يمتلكون 32% من تلك الأسهم• إن اقتصاد اليابان المعولم ينمو من جديد؛ وقد ارتفع مؤشر نيكاي بمقدار 38% هذه السنة، بحسب قياسه بعملة الدولار، وصار من المتوقع أن يحقق الاقتصاد نمواً يبلغ 2% تقريباً في عام •2003
ثم هناك الصين• ولو كان للتفاؤل لسان ينطق بلغة ما هذه الأيام، لنطق على الأرجح باللغة الصينية: لقد حقق رئيس البلاد الجديد “هو جينتاو” بداية سلسة في إدارة تحول الصين إلى قوة اقتصادية عظمى• ويواصل الاقتصاد الصيني نموه بإيقاعه السنوي المنتظم الذي بلغ معدله 8% تقريباً، وبلغت البلاد درجة من الثراء دفعت رئيس البلاد الجديد إلى التحدث عن إعادة توزيع الثروة وعن العدالة الاجتماعية• إن الصين آخذة في التحول إلى مصنع العالم- ويبرهن على ذلك الفائض التجاري الضخم الذي حققته• ويعتبر بعض المحللين هذه القوة الاقتصادية الجديدة كقوة خطيرة، غير أنني أشعر بالاطمئنان بسبب وجود شبكة تجري فيها الاتصالات بين الشركات الأجنبية والصين الشيوعية، وهي الشيوعية بالاسم• ومن بين أضخم التحديات التي تبرز في مطلع القرن الحادي والعشرين، هناك مسألة سحب الصين، الماضية في مسيرة التحديث، إلى حظيرة الاقتصاد العالمي بأمان، ويبدو أن ذلك يجري الآن فعلاً•
أما روسيا فقد كانت الدولة العاجزة المقعدة في عقد التسعينيات، لكن قوى العولمة بدأت حتى في هذا البلد بتغير مقدار الفوضى الناجمة عن الفساد وذلك في حقبة ما بعد الشيوعية• وتأتي أوضح إشارة إلى ذلك في عملية اندماج شركات النفط الروسية في الاقتصاد العالمي، حيث استولت شركة “بريتيش بتروليوم” على حصة من الأسهم بقيمة 8,1 مليار دولار من أسهم شركة “تي إن كي” الروسية العملاقة، كما وردت تقارير تفيد بأن شركة “إكسون موبيل” تدرس القيام باستثمار 25 مليار دولار في شركة “يوكوس” الروسية، وهي عملاق نفطي آخر• ويبدو أن عناصر حكم القلة المستغلة في روسيا قد استنتجوا أنهم قادرون على جني المزيد من الأموال ببيع الأسهم في أسواق المال العالمية بشكل يفوق حجم الأموال التي يحصدونها من ممارسة أعمال اللصوصية والسرقة•
وتوفر أسواق المال العالمية للاقتصادات المريضة علاجاً وحشياً لكنه يمنحها أسباب الحياة• وقد خرجت كل من تايلاند وكوريا الجنوبية من الأزمة المالية التي عصفت بآسيا عام 1997 وهما تتمتعان بقوة أكبر• أما في الأرجنتين فقد حدث مؤخراً ذلك التحسن الدراماتيكي الكبير، حيث أدى السماح بتعويم عملة “البيزو” إلى انخفاض حاد في قيمتها بلغ مستويات جعلت البلاد ذات جاذبية لا تقاوم في أعين المستثمرين•
ومن المتوقع أن يحقق الاقتصاد الأرجنتيني نمواً يبلغ 9% هذه السنة، بعد تراجع بلغ 11% في عام •2002 وقد ارتفعت هناك القيمة الدولارية للأسهم بمقدار 100% هذه السنة - وهي أضخم زيادة على الاطلاق تحققها أي سوق رئيسية في العالم• وليس من دواعي الدهشة أن البلدان التي تسير نحو الأسوأ إنما هي البلدان التي تقاوم قوى العولمة: إذ يتحدث الساسة في ألمانيا وفرنسا، على سبيل المثال، عن إصلاح أسواق العمل المصابة بالتصلب، غير أن تقليص القوة المحافظة التي تتمتع بها