أبسط وأجمل أنواع القراءات للأحداث الدولية يقول بسيولتها• هي قراءة بسيطة لأنها تقول إن الأحداث الدولية لا يمكن فهمها حتى تستقر على وضع محدد• وهي جميلة أو على الأقل مطمئنة لأنها تمنح كل فاعل سياسي الأمل في شيء ما• فالذين خسروا المعارك المهمة خلال الشهور أو السنوات القليلة الماضية مثلنا قد يأملون في تغير مجرى السيل• أما الذين يكسبون فيأملون في أن تختفي المقاومات القليلة التي واجهوها وهم يشقون طريقهم إلى حسم المعارك• والمشكلة في تلك القراءة أنها لا تفيد بشيء تقريبا في قراءة الواقع سوى إنعاش الآمال الغامضة• وقد تضر إذا أوحت للناس بأن نتيجة الأحداث هي أنه لم ينتصر أحد ولم ينهزم أحد حتى الآن•
والقول بالسيولة في الساحة الدولية يستند أساسا على غموض الدلالات الكلية للأحداث الكبرى وخاصة ذات الصلة بمنطقتنا من العالم وهو ما يمكن تبينه في ثلاث ساحات كبرى: أميركا، وأوروبا والصين•
ففي أميركا يواجه المشروع الامبراطوري الأميركي بعض النكسات أساسا بسبب الوضع في العراق• لقد فازت أميركا في المعركة العسكرية ولكن مقابل نكسة دبلوماسية في مجلس الأمن قبيل الغزو أدت إلى ذهابها للحرب بدون تفويض أو قرار دولي مساند• وتوقع الجميع أن يطبق الأميركيون ما هددوا به بتجاهل مجلس الأمن تماما والمضي وحدهم في بناء مشروعهم الامبراطوري بدءا من العراق• وما حدث كان عكس ذلك• فما أن انتهت الحرب لصالحهم حتى اضطر الأميركيون للذهاب إلى مجلس الأمن مرتين حتى الآن للحصول على قرارين بشأن العراق وهو ما يعني مبدئيا التسليم باستحالة الانفراد التام بالقرار في الساحة الدولية أو حتى الساحة العراقية وحدها• وحدث ذلك لأن الواقع هشم الصورة الوردية التي كانت لديهم فيما يتصل بالعراق• وبدلا من أن يصبح العراق أرض الأحلام أصبح كابوسا للرئيس بوش• فلكي ينجح هناك عليه أن يبقي عددا كبيرا من القوات الأميركية وينفق أموالا طائلة على حساب الداخل الأميركي• أي أن النجاح الذي لا زال بعيدا في العراق قد يعني بحد ذاته الفشل في الداخل• والواقع أن النجاح لا يزال بعيدا جدا في العراق بل وفي أفغانستان أيضا• وفيما يتصل بالعلاقات الأميركية العالمية يواجه الأميركيون أشد نكسة وقعت لصورتهم في العالم منذ نشأة الدولة الأميركية• ومع ذلك فالأميركيون لم يخسروا سياسيا ودبلوماسيا بالقدر المتوقع والمترتب على توجهاتهم الأخيرة• فقد نجحوا في الحصول على قرارين اجماعيين من مجلس الأمن مقابل تنازلات بسيطة ولم تترجم نزعة العداء لأميركا في العالم نفسها في تمرد سياسي عالمي ضدهم•
وتتضح تلك السيولة والغموض أيضا في الساحة الأوروبية• فأوروبا “القديمة” سجلت لنفسها نصرا أخلاقيا بالامتناع عن منح الغزو الأميركي للعراق أية شرعية دولية قبل وقوعه• ولكنها بكل أسف خسرت هذا النصر أو أكثره عندما وافقت على منح الاحتلال الأميركي للعراق شرعية قانونية كما جاء في القرارين 1441 و•1511 وفي الحالتين لم تحصل أوروبا على ما تريده إلا في جمل قليلة وغامضة•
ولكن الانقلاب في الدور الأوروبي ملحوظ بدرجة أكبر في حالة فلسطين وايران• فقد سلمت أوروبا بوجهة النظر الأميركية فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني-الاسرائيلي عندما وجهت اللوم بل والتهديد للفلسطينيين• وعلى رغم الكلمات التحذيرية القليلة التي وجهتها إلى إسرائيل أيضا فهي تراجعت عن “سياسة التوازن النسبي” بين الطرفين وصارت أقرب إلى الموقف الأميركي عن موقفها التقليدي هي•
وأشد المواقف الأوروبية مدعاة للدهشة هي بشأن مسألة البرنامج النووي لإيران• فمسارعة أوروبا للقيام بالدور الأساسي لوقف هذا البرنامج أو تغيير محتواه يقبل تفسيرين• الأول يقول إن أوروبا تريد أن تسلب من أميركا فرصة استخدام هذا البرنامج كذريعة للتصعيد الأميركي ضد ايران ربما بوسائل عسكرية وهو ما دعاها إلى توجيه انذار إلى ايران بقبول التوقيع على ملحق اتفاقية حظر الانتشار والاستجابة الكاملة لمطالب وكالة الطاقة الذرية قبل نهاية الشهر الحالي• أما التفسير الثاني فهو أن أوروبا تعمل لتحقيق الأهداف الأميركية بوسائل أخرى• وفي النهاية لا يبدو أن هناك فارقاً حقيقياً بين الأهداف الأميركية والأوروبية فيما يتعلق بقضية حظر الانتشار حيث تلاحق الدول العربية والإسلامية القريبة من إسرائيل وحدها لتمكين الأخيرة من الانفراد بالسلاح النووي• ويلاحظ هنا أنه بغض النظر عن النوايا نجحت أميركا في تتبيع أوروبا لسياساتها وتوجهاتها وليس العكس• ويعني ذلك أن الأمل في بروز أوروبا كقطب بديل أو مواز أو منافس قد صار أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة على رغم كل ما يصدر عن أوروبا من جلبة•
وأخيرا فإن موقف الصين يزيد ولا يقل غموضا• فالقوة الصينية تتعزز اقتصاديا وتكنولوجيا وخاصة بعد إطلاق قمرها الاصطناعي الأول وتحولها إلى القوة الفضائية الثالثة بسرعة• ويؤكد المراقبون أن الصين تكسب مزيدا من النفوذ والقوة في آسيا على حساب الولايات المتحدة• ومما لا شك فيه أن القوة الحقيقية للصين صارت تؤهلها لم