بعد كثير من الهرج والمرج الدوليين، والتردد البادي على موافقة إدارة بوش، أكدت إيران عزمها على وقف برنامجها المثير للجدل والخاص بإنتاج اليورانيوم المخصب الذي يمكن استخدامه كوقود للأسلحة النووية· وأكدت إيران أنها ستعمل على إزالة كافة الشكوك المحيطة ببرنامجها النووي· مقابل ذلك أعلن عدد من الدول الأوروبية، من بينها فرنسا وألمانيا وبريطانيا عن تقديم وعود جديدة لطهران بالتعاون معها، في إشارة من هذه الدول لإبرام صفقات مع طهران في مجال التكنولوجيا المتقدمة·
ومع أنه من الواجب أن ينظر إلى إحراز أي تقدم مع القادة الإيرانيين على أنه خطوة على الطريق، إلا أنه من اللازم أيضاً توخي الحذر والانتباه إلى أن وعود طهران وتعهداتها قد لا تمنعها من المضي قدما باتجاه تطويرها للقنبلة النووية· ولا تشكل تعهدات طهران أية ضمانات على ألا تكرر فعل ما أقدمت عليه كوريا الشمالية بعد تعهدات عام 1994 التي قدمتها لتنكث الوعد الذي قطعته للرئيس بيل كلينتون لاحقا· بل إن هذا الوعد الإيراني يمكن أن يهدد بدق إسفين بين الحلفاء الأوروبيين والولايات المتحدة الأميركية فيما يتعلق بالسياسات التي تنتهجها طهران·
ليست هذه الشكوك التي نثيرها تجاه سلوك طهران وتطلعاتها النووية وهمية أو لا أساس لها على أرض الواقع· بل على العكس تماما، فهي لها ما يبررها على الأرض· فإذا ما تركنا جانبا مدى الحاجة الفعلية لدولة غنية بالنفط مثل إيران إلى الطاقة النووية، فإن للولايات المتحدة الأميركية شكوكها وتساؤلاتها حول الدوافع الإيرانية وإصرارها على تخصيب اليورانيوم، علما بأنه لا حاجة تستدعي تخصيب اليورانيوم لتطوير برامج نووية ذات صلة بالاستخدام السلمي المدني· أضف إلى ذلك أن إيران تعتزم كذلك إنتاج مادة البلوتونيوم، وهو نوع آخر من الوقود الذي يستخدم للأسلحة النووية، وذلك ببنائها سلفا مفاعلا مائيا ثقيلا قادرا على إنتاج 40 ميجاوات في منطقة أراك· المعروف عن هذا النوع الصغير جدا من المفاعلات في مجال إنتاج الطاقة، والكبير جدا في الوقت ذاته لأغراض البحث العلمي، أنه يستخدم في كل من باكستان والهند المجاورتين، وكذلك في إسرائيل، لأغراض إنتاج الوقود الذي تتطلبه برامج الأسلحة النووية· ثم إن إيران تعكف في الوقت ذاته على تطوير طاقم من الصواريخ بعيدة المدى· وهذه صواريخ لا تلائم حمل الرؤوس التقليدية· وعليه فإن المنطق الوحيد الذي يبرر تطوير هذا النوع من الصواريخ، هو تحميلها رؤوسا نووية· هذا ولم تقع الأزمة الدولية الراهنة بسبب البرامج الإيرانية إلا نتيجة لشكوك المجتمع الدولي حول هذه البرامج· يذكر أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد منحت طهران مهلة حتى الحاد ي والثلاثين من شهر أكتوبر الجاري كي تجيب على سؤال وجهته لها الوكالة يتعلق بتقديم تفسير لوجود آثار ومخلفات تدل على وجود مادة اليورانيوم المخصب، وجدت في موقعين من مواقع البرامج النووية الإيرانية؟ من جانبها قالت طهران إن المادة المشار إليها قد وجدت طريقها إلى الموقعين الإيرانيين المذكورين عن طريق الخطأ، ونتيجة لتلقيها شحنات ملوثة من مادة اليورانيوم· ولكن لا نستبعد أن تكون إيران قد مضت سرا في تخصيب اليورانيوم، الأمر الذي يشكل خرقا واضحا لاتفاقها الخاص بالخضوع لبرامج التفتيش الذي أبرمته مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟ كما وترغب الوكالة أيضا في معرفة الكيفية التي تمكنت بها طهران من تطوير تكنولوجيا التخصيب العالية هذه، بدون تعريض تلك المواد المشعة لاختبار نووي سري، وهو إجراء ممنوع هو الآخر؟ وبموجب الاتفاق الجديد فإن على إيران أن تجيب على جميع هذه الأسئلة وتقدم تفسيرا واضحا ومقنعا لها· وفيما إذا لم تفعل فهي تخاطر بإعلانها كدولة معزولة من قبل مجلس الأمن الدولي، وربما يعلن الاتحاد الأوروبي عن تجميد اتفاقياته التجارية معها، الأمر الذي سيكلف جميع الأطراف المعنية أموالا طائلة·
غير أن المشكلة الحقيقية تكمن في انعدام الضمانات لأن تسفر هذه الإجراءات فعليا -حتى في حال رضوخ طهران- عن وضع حد نهائي لتطلعاتها النووية· ولهذه الشكوك ما يبررها بالنظر إلى أوجه الشبه بين الصفقة الحالية التي عقدت مع طهران، وتلك التي كان قد عقدها الرئيس السابق بيل كلينتون مع كوريا الشمالية في عام ·1994 فقد ووجهت بيونج يانج بسخط المجتمع الدولي واحتمال مواجهة عسكرية مع واشنطن إثر خرقها الاتفاق الذي أبرمته مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية· فالذي حدث على وجه التحديد هو أن بيونج يانج كانت قد وافقت بموجب ذلك الاتفاق على وقف برامج إنتاجها لمادة البلوتونيوم، إلا أنها واصلت إنتاجه سرا، بينما واصلت جني الفوائد الاقتصادية والمساعدات التي حصلت عليها بموجب الاتفاق المذكور· إذا فإن الحياد النووي الذي أعلنته بيونج يانج وقتها، لم يكن إلا مجرد تمويه ونفاق، لتعود بيونج يانج كمصدر خطر نووي يهدد الأمن العالمي كله·
وفي طهران، فإن المتوقع أن تعلن إيران حيادها النووي أيضا بموجب الاتفاق الأخير المذكور آنفا، غير أن الوقف ا