يأتي الاجتماع الطارئ الذي عقده حلف الناتو في بروكسل يوم الاثنين الماضي، كاستجابة لدعوة نيكولاس بيرنز سفير أميركا إلى حلف الناتو، وذلك لمطالبة الأوروبيين بإيضاح موقفهم فيما يتعلق بالخطط الرامية إلى استحداث مقر قيادة عسكرية خاصة بالاتحاد الأوروبي·
لقد كانت تلك مناوشة شكلية أخرى في العلاقات الأميركية-الأوروبية؛ وقد قال الجميع كلاماً مطمئناً· ولم يبادر أحد بقول كل الحقيقة، ثم جرى فيما بعد الإدلاء بالتصريحات على سبيل التهدئة والتسكين· ولم يتم حل شيء·
لكن سوء الفهم الأعمق أتى على كل حال من جهة واشنطن، إذ أن الناس هناك لا يدركون أن كل شيء قد تغير في نظر الأوروبيين، منذ حرب العراق· فالمسألة لا تتعلق بما تظنه حكومات فرنسا وألمانيا، وحكومات مجموعة هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ (مجموعة البينيلوكس)، بل إنها مسألة ما تفكر به جموع جماهير سكان أوروبا الغربية·
وقد أتى عقد الاجتماع كنتيجة لانضمام بريطانيا مجدداً إلى المشروع الأوروبي القاضي باستحداث بنية عسكرية خاصة بالاتحاد الأوروبي (وكذلك مقر قيادة) قادرة على العمل باستقلالية عن حلف الناتو في المسائل التي لا يريد حلف الناتو (أي الولايات المتحدة) الانخراط والتورط فيها· وقد يبدو أن ذلك لا يحمل أي ضرر، لكنه يأتي في نظر واشنطن كإعلان استقلال أوروبي، وكأزمة كبرى أيضاً·
لقد كانت بريطانيا، ومعها فرنسا، مسؤولتين عن الخطة الأصلية الرامية إلى استحداث قوة رد سريع مستقلة تابعة للاتحاد الأوروبي وخاصة به، وهي الخطة التي تبناها رسمياً الاتحاد الأوروبي في نوفمبر من عام ·2000 وقد حدثت العمليات المستقلة، التي جرت تحت سيطرة الاتحاد الأوروبي الاسمية، على نحو ناجح في كل من البلقان وفي منطقة غابات إيتوري في الكونغو· والأسوأ من ذلك، في وجهة نظر واشنطن، أن السيد بلير قد أكد من جديد المبدأ الذي يقضي بقيام مقر التخطيط التابع للاتحاد الأوروبي بتطوير تعاون منظم في القضايا العسكرية بين بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى التي ترغب في الانضمام إلى المجهود ككل· ويعني التعاون المنظم مجالات الأركان والتخطيط·
ويتمثل الهم الرئيسي لدى الولايات المتحدة، كما قالت صحيفة هيرالد تريبيون بعد الاجتماع، في عدم وجود مقر قيادة عسكرية أوروبية يمكنها إجراء التخطيط والعمليات خارج نطاق إشراف وسيطرة حلف الناتو، أي خارج نطاق إشراف وسيطرة الولايات المتحدة· ويأتي ذلك كتصريح له مغزى سياسي هائل لدى الأوروبيين· وقد قام حلف الناتو، وعلى نحو مشروع، بممارسة الاشراف والسيطرة بموجب موافقة متبادلة بين أعضائه، وبقيت الممارسة مرهونة بشرط القيام بخدمة الغرض العسكري الأصلي للحلف، أي الدفاع ضد التهديد السوفييتي· اليوم، وبعد أن اختفى الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو من الوجود، لم تبق أمام الناتو حرب يخوضها، وإن الحرب على الإرهاب التي يشنها الرئيس بوش ليست حرباً ذات أهمية لحلف الناتو كمنظمة·
ولم تطلب واشنطن من الناتو أن يخوض معها الحرب في أفغانستان، إذ أنها ما كانت لتحلم بوضع حرب العراق تحت قيادة وإمرة حلف الناتو، حتى لو كانت غالبية الأوروبيين تؤيد تلك الحرب- التي بالطبع تعارضها أغلبية الأوروبيين·لكن لبعض الدول الأعضاء في حلف الناتو قوات في العراق تحت إمرة القيادة الأميركية، إلا أن ذلك أتى بموجب قرار وطني·
لقد وجدت المنظمة حلف الناتو لنفسها وظيفة مفيدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وهي وظيفة حفظ السلام في البلقان، والآن في أفغانستان· وقدم الحلف أيضاً خدمة تستحق الإعجاب في سياق عملية الدمج السياسي لجيوش حلف وارسو في المعايير الغربية المتعلقة بالممارسات والقيم العسكرية·
لكن ليس هناك تهديد يستهدف أوروبا الغربية ويبرر استمرار حلف له هذه الطبيعة ويعمل تحت إمرة قيادة أميركية·
في أوروبا الشيوعية السابقة، كان هناك تهديد مستقبلي محتمل وممكن مصدره الاتحاد السوفييتي، وكان يأتي مدفوعاً بالتجربة التاريخية· ومن المبرر والمنطقي أن الأوروبيين في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية يريدون تحالفاً أمنياً مع الولايات المتحدة، بوجود أو بعدم وجود الناتو كوسيط·
غير أنه من المفيد لدى صنع القرار أن يكون هناك شيء من المعرفة بالتاريخ· ويقول البولنديون إن الأوروبيين -أي فرنسا وبريطانيا- أخفقوا في إنقاذهم في سبتمبر من عام ·1939
وفي الواقع أن ذلك قد حدث، إذ جرى منعهم من الوصول إلى بولندا، لكنهم بإعلان الحرب، أحدثوا لدى البولنديين إمكانية الشعور بالأمل في تحقيق نصر على ألمانيا في نهاية المطاف- ولم يصبح ذلك ممكناً إلاّ لأن البريطانيين خاضوا الحرب بمفردهم طوال سنة ونصف إلى أن قام هتلر بشن هجومه على روسيا في يونيو من عام ·1941
ولم تنخرط الولايات المتحدة في الحرب في سبيل حماية البولنديين، بل إنها لم تفعل على الإطلاق حتى حلول شهر ديسمبر من عام ·1941 ولم تنفد القوات الأميركية عمليات الإنزال في أوروبا، وتحديداً في إيطاليا، حتى مضت أربع سنوات كاملة بعد سقوط بولندا·
وقد جرى تحرير بولندا من قبضة النازي