صارت لأنصار السوق الحرة اليد العليا في الجدل الدائر حول تنظيم الاقتصاد، وقد ساد رأيهم على نطاق واسع جداً إلى حد دفع جوزيف ستيغليتز ، عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل لعام ،2001 إلى تسميته بمصطلح إجماع واشنطن · وقد انبرى ستيغليتز ، في كتابه الجديد الذي أتى بعنوان عقد التسعينيات المدوّي ، ليرد على الحجج بمثلها وليقول إن الأميركيين خذلتهم أميركا الشركات ومعها وول ستريت، بدلاً من أن تقدما للولايات المتحدة محركاً اقتصادياً يحسدها عليه الآخرون·
وبكتابه هذا، يبرهن ستيغليتز على أنه يبقى كسابق عهده صوتاً ذا شأن كبير في شجب وانتقاد التفاني العبودي في سبيل السوق الحرة: إذ أن أولئك يجادلون حول كفاءة وفاعلية وأفضلية الأسواق الحرة على الاقتصادات التي تقودها الحكومة، وهم في أغلب الأحيان يتحدثون عن الهدر الذي ينشأ من جعل الحكومة تتولى، إلى حد الإفراط، قدراً كبيراً من عملية اتخاذ القرار· وعلى رغم ذلك، كما يقول ستيغليتز : فـ إن نطاق السرقة واللصوصية، التي تم إنجازها بسبب أعمال نبش ونهب شركة وورلد كوم و إنرون وغيرهما من الشركات، كان يقاس بمليارات الدولارات- وهو يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لبعض الأمم(الأخرى) ·
ويقول ستيغليتز إن هناك ما هو أكثر من المصادفة في أن القطاعات والشركات، التي كانت تعاني من أكبر وأخطر المشكلات في عقد التسعينيات، قد حظيت بأكبر قدر على الإطلاق من إلغاء القوانين، وها هنا الوقائع والتجليات: الفقاعة الاستثمارية في قطاع الاتصالات، التلاعب بالسوق في كاليفورنيا (قطاع الكهرباء)، تضارب المصالح والمنازعات التي ظهرت في قطاع المال إثر إلغاء قانون غلاس-ستيغال ، والتضليل الذي أحاط بالشركات والذي نشأ من عملية إلغاء القوانين والأنظمة المتعلقة بتدوين الحسابات·
إن هذه الانتهاكات والإساءات ناشئة من التفكير الذي يرى أن الأسواق معصومة من الخطأ وأن نجاحها مؤكد: إذ يشكو أنصار السوق الحرة من سخاء الحكومة وكرمها، كما يقول ستيغليتز ، إلا أنهم يتعامون عن رفاه الشركات ورخائها الذي نراه في قناع المساعدات التي تقدمها الحكومة إلى شركات الطيران وقطاع الزراعة، وفي قناع حماية قطاع صناعة الفولاذ ، وكذلك تحت ستار كفالة إدارة الرأسمال الطويلة الأمد التي تمارسها الشركات الاستثمارية (التي أفرطت في المغامرة وتبني الوسائل الاستثمارية ذات المخاطر الشديدة،على أمل تحقيق أرباح هائلة)· وها هنا في هذه الأمثلة العملية، يبدو خطاب السوق الحرة مجرد واجهة للأجندة السياسية التي تشتمل على تقديم المساعدة إلى شركات النفط، وعلى تخفيف الضرائب عن الأغنياء، وكذلك على تخفيف وتقليص المنافع والفوائد والتعويضات التي يتلقاها الفقراء · وهكذا تواطأت أوساط وول ستريت وتآمرت مع أميركا الشركات بهدف إحداث هذه الكوارث والانهيارات، كما يقول ستيغليتز · وهنا خذوا البنوك الاستثمارية خير مثال على ذلك، فهي معنية كما هو مفترض بتوفير المعلومات التي من شأنها أن تؤدي إلى توزيع أفضل للموارد ، غير أنها انهمكت بدلاً من ذلك في الاتجار غير المشروع بالمعلومات المحرّفة أو غير الدقيقة ، و شاركت في خطط (ومكائد أو مشروعات وهمية) ساعدت الآخرين على تحريف المعلومات التي يقدمونها وحققت للآخرين الثراء والغنى على حساب أصحاب الأسهم ·
ويعترف ستيغليتز بأن إدارة كلينتون كانت شريكة في جريمة التجاوزات التي حدثت في عقد التسعينيات، إذ قامت، على سبيل المثال، بدفع عملية إلغاء القوانين المنظمة لعمل قطاع الاتصالات دفعاً كبيراً فقطعت العملية شوطاً طويلاً جداً· لكن ستيغليتز يحتفظ بأكثر أشواكه حدّة ويدخرها لإدارة بوش ، على رغم أن كتابه الجديد هذا يركّز على الفترة التي كانت فيها إدارة كلينتون في موقع السلطة والحكم· وتنبع أهمية ذلك من أن ستيغليتز كان عضواً من أعضاء إدارة كلينتون ، وتولى في عهدها رئاسة مجلس المستشارين الاقتصاديين ما بين عام 1993 وعام ،1995 ثم شغل في وقت لاحق منصب كبير الاقتصاديين في البنك الدولي وبقي فيه حتى عام ·2000
ويلقي ستيغليتز معظم اللوم على هيئة الاحتياطي الفيدرالي وعلى الخزانة الأميركية ؛ غير أن انتقاده لهاتين المؤسستين لا يأتي دون ما يبرره، إذ أن أكبر مصدر لقلق واهتمام ستيغليتز معني بالطريقة التي تلونت بها أيديولوجيا هاتين المؤسستين واصطبغت بالحقيقة التي تقول إنهما استمدتا القوة والتأييد من الأسواق المالية الحرة وعلى نحو ثانوي، من قطاع الأعمال والتجارة، في حين أن أصوات العمال أو المستهلكين تكاد لا تكون مسموعة· وهنا يقول ستيغليتز · :إن قلق هاتين المؤسستين حيال التضخم وأسواق رأس المال يفوق قلقهما حيال البطالة والفقر، وذلك على رغم الحقيقة التي مفادها أن الميثاق يُلزم، ليس فقط بالمحافظة على استقرار الأسعار، بل وبتشجيع النمو والتوظيف في مقابل البطالة · وهنا يطرح ستيغليتز في دائرة الخرافة تلك الفكرة التي تقول إن معدل البطالة المنخفض يؤدي بالضرورة إلى التضخم·
في بعض الأحيان يتحول ستيغليتز في كتابه هذا