رفع الرئيس الفرنسي جاك شيراك خمسة لاءات في وجه الرئيس الأميركي جورج بوش· تدور كلها حول العالم العربي وهي:أولاً: لا لمحاسبة سوريا ومقاطعتها وذلك على أساس أنه لا مبرر للمقاطعة، ثم إن سلاح المقاطعة أثبت عدم جدواه·
ثانياً: لا لتحجيم دور الأمم المتحدة في العراق؛ وذلك على أساس ألا شرعية لأي عمل عسكري ما لم تقرّه المنظمة الدولية، وما لم يكن متوافقاً مع شرعتها·
ثالثاً: لا للتخلي عن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وذلك على أساس أنه رئيس منتخب بصورة ديمقراطية، وأنه رمز للشعب الفلسطيني·
رابعاً : لا للمشروع الأميركي حول تقرير مصير الصحراء الغربية· وذلك على أساس أن هذا المشروع يستولد من الصراع المغربي-الجزائري دويلة لا مقومات لها يمكن أن تشكل بؤرة خطرة في غرب افريقيا·
خامساً: لا لجدار الفصل العنصري الذي تقيمه إسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة· وذلك على أساس أن هذا الجدار يقضم جزءاً كبيراً من هذه الأراضي الفلسطينية ويقوّض مشروع الدولتين إسرائيل وفلسطين الذي وضعته القوى الأربع: روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة·
تشكل هذه القضايا الخمس الأسس التي تقوم عليها استراتيجية الرئيس الأميركي جورج بوش في الشرق الاوسط، وبالتالي فإن لاءات الرئيس الفرنسي تسفّه هذه الاستراتيجية وتكشف عن عيوبها الاخلاقية والمعنوية التي تتناقض مع القانون الدولي ومع المعاهدات والمواثيق الدولية وكذلك مع حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو الحق الذي قامت منظمة الأمم المتحدة أساساً للمحافظة عليه محافظة منها على السلام والاستقرار الدوليين·
إذا كان الرئيس الأميركي يتبع هذا النهج السياسي المعادي للقضايا العربية إكراماً لعيون الاسرائيليين، فإن من السذاجة الاعتقاد بأن الرئيس الفرنسي يرفع لاءاته الخمسة في وجه هذا النهج اكراماً لعيون العرب· فالرئيس الفرنسي ينسجم في موقفه مع أمرين أساسيين: أولاً مع المصالح الفرنسية وبالتالي مع المصالح الأوروبية في العالم العربي، وثانياً مع القيم الحقوقية والانسانية التي بدأت تستعيد صدقيتها بعد أن أدى التنكر لها إلى قيام تلك الهوة السحيقة من اللاثقة بين الشرق والغرب· أي أنه في الوقت الذي يعمل فيه الرئيس شيراك على ردم هذه الهوة وبالتالي على المساهمة في استئصال الإرهاب من جذوره، فإن الرئيس الأميركي يعمل على تعميق الهوة وتوسيعها وبالتالي على رعاية الإرهاب وتوفير المنشطات والمبررات له·
يحتاج الإرهاب حتى ينمو ويزدهر إلى أرضية من الظلم وانتهاك الحقوق الوطنية والكرامة الشخصية· وهذا ما تقوم به القوات الأميركية في العراق بعد أن تبين أن تهمة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل كانت تهمة ملفقة من الأساس· وهو ما تقوم به القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية وغزة بعد أن تبين أن شارون يستبعد من حساباته أية تسوية سياسية، وأنه ماضٍ قدماً في مخططه التدميري للشخصية الوطنية الفلسطينية بدعم ومؤازرة مباشرة وغير مباشرة من الولايات المتحدة·
من هنا ترتفع علامة الاستفهام الكبيرة حول تصرف العالم العربي إزاء لاءات الرئيس شيراك·
صحيح أنه لا المعارضة الفرنسية للحرب على العراق حالت دون وقوع الحرب، ولا المعارضة الفرنسية للجدار الإسرائيلي سوف تحول دون بناء الجدار· وصحيح أيضاً أنه لا الرفض الفرنسي لمقاطعة سوريا يقنع الكونغرس والإدارة الأميركيين بالرجوع عن هذا الاجراء التعسفي، ولا المعارضة الفرنسية لمشروع القرار الأميركي في مجلس الامن حول دور الأمم المتحدة في العراق سوف تنقذ المنظمة من بين براثن الهيمنة الأميركية، ولكن هل إن ذلك يبرر إهمال العالم العربي وتجاهله لأهمية الموقف الفرنسي المبدئي·· وإحناء الرأس للهراوة الأميركية؟·
على رغم أن موقف الرئيس شيراك ليس موقفاً فرنسياً فقط، بل تشاركه فيه دول أوروبية عديدة أخرى وخاصة ألمانيا، فإن رد الفعل الأميركي الغاضب ينصب على فرنسا دون سواها· ففي آخر لقاءين للرئيس جورج بوش مع المستشار الألماني جيرهارد شرويدر ثم مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك، استقبل الأول بالعناق، واكتفى بالنسبة للثاني بمصافحة باردة·
تفسر هذه الظاهرة الكاتبة الأميركية نينا بيرنشتاين، في مقال نشرته في صحيفة هيرالد تريبيون ، بأن الاميركيين ينظرون إلى فرنسا على أنها سيدة ، وإلى المانيا على أنها رجل ·
فرنسا تصدّر الأزياء والعطور وأدوات التجميل، وألمانيا تصدر الماكنات والسيارات القوية والاجهزة الثقيلة· وتعكس السينما الأميركية هذه الصور النمطية عن فرنسا وألمانيا· فاللغة الفرنسية هي لغة الحب والدلع·· أما الألمانية فإنها لغة ممزوجة بحركة الأحذية العسكرية الصلبة·
ليست هذه الصور جديدة في العقل الأميركي· ففي عام 1953 كانت الولايات المتحدة كما هي الآن على خلاف مع فرنسا· فوصفت مجلة لايف الأميركية الحكومة الفرنسية بأنها فرقة من راقصي الكان كان · وعندما كان الرئيس روزفلت مستاءً من إصرار الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول على المشاركة في مؤتمر يالطة بعد الحرب العالمية ال