لشهر أكتوبر وتحديداً اليوم الحادي والعشرين منه مكانة مرموقة في وجدان وذاكرة السودانيين·· في اليوم الحادي والعشرين من أكتوبر عام ،1964 أذهل الشعب السوداني العالم عندما أسقط نظاماً ديكتاتورياً عسكرياً كان يوصف بأنه أكثر الأنظمة استقراراً وقوة هو نظام الفريق ابراهيم عبود الذي حكم البلاد بقبضة من حديد والذي انبثق عن أول انقلاب عسكري في تاريخ السودان حديث الاستقلال، قام به قائد الجيش الوطني وكبار الضباط ضد النظام الديمقراطي البرلماني بعد أقل من عامين من إعلان استقلال السودان في يناير عام 1956!!·
لم يكن الذهول وحده هو الذي ساد العالم القريب والبعيد عن السودان ولكن صحبه اعجاب مدهش عم الأوساط الشعبية في العالم العربي وأفريقيا بذلك الشعب المسالم الذي صنع معجزة إسقاط نظام عسكري مدجج بالسلاح ومدعوم من الشرق والغرب والجيران التقدميين والرجعيين الذين والوه ودعموه وأغدقوا عليه المعونات والمنح والسلاح، وكل اعتبر أن انقلاب 17 نوفمبر سيحقق له هدفاً ومصلحة في السودان كان يرى في النظام الديمقراطي البرلماني عقبة في سبيل تحقيقها·· وقد كان·
ومعجزة أكتوبر السودانية (والتي ستعرف فيما بعد بثورة الحادي والعشرين من أكتوبر) التي أدهشت العالم وحظيت بتأييد وحفاوة منقطعة النظير كانت تجربة رائدة وفريدة في مسيرة تاريخ الشعوب ونضالها من أجل تحقيق الديمقراطية والعدل في مواجهة القوى الانقلابية العسكرية التي سادت الساحة السياسية في الوطن العربي وأفريقيا منذ مطلع الخمسينيات·· هي تجربة رائدة لأنه ولأول مرة في تاريخ المنطقة استطاعت حركة شعبية مدنية مسلحة فقط بسلاح الإضراب السياسي أن تواجه نظاماً عسكرياً متجبراً وأن ترغمه على إعلان سقوطه بنفسه وعلى تسليم السلطة إلى ممثلي الجبهة الوطنية الديمقراطية للهيئات والأحزاب النقابية والسياسية·· لقد جرت محاولات انقلابية عديدة إبان فترة حكم الفريق عبود، بعضها قام به ضباط كبار الرتب وفشل، وبعضها قام به ضباط صغار الرتب بترتيب وتنظيم مع قوى سياسية عقائدية وفشل·· وبدا في وقت من الأوقات أن مجموعة كبار الضباط (المجلس الأعلى للقوات المسلحة السودانية) قد تمكن من السلطة ومن احتواء القوات المسلحة بشكل لا يمكن اختراقه·
لكن الحركة السياسية الديمقراطية الواعية آنذاك عملت بصبر وجهد ومثابرة على غرس فكرة الاضراب السياسي والعصيان المدني بديلاً عن الانقلاب العسكري وسلاحاً مؤمناً للإطاحة بالنظام العسكري واستعادة الديمقراطية والحرية وصولاً إلى العدل وتحقيقاً للسلام في الجنوب·
وهكذا كانت ثورة الحادي والعشرين من أكتوبر عام 1964 في مبتداها ومنتهاها حركة شعبية مدنية ذات أهداف ديمقراطية خاضت معركة سلمية أدواتها الجماهير في تنظيماتها النقابية الديمقراطية والطلاب في اتحاداتهم الطلابية وجماهير الأحزاب - كل الأحزاب - الديمقراطية السودانية·· ولقد كان حادث ندوة الجنوب في جامعة الخرطوم ومقتل الشهيد القرشي هو مجرد عود الكبريت الذي أشعل نار الثورة الشعبية الكامنة في الوجدان والعمق السوداني·
لكن الثورة الشعبية السلمية لم تستطع أن تواصل مسيرتها وتحقق أهدافها المبتغاة بسبب ظروف موضوعية وذاتية وكان مكتوبا عليها أن تبقى حية في الذاكرة السودانية يستمد منها الناس روح الأمل والتفاؤل كلما مرت ذكرى يوم الحادي والعشرين من أكتوبر المجيد·