إذا كنا انطلقنا في مجال دراسة المجتمع العالمي الراهن من مقولة أساسية مفادها أننا نمر بمرحلة تغير كوني شامل، فقد كان علينا أن نحدد مفردات هذا التغير ومؤشراته الكمية والكيفية· حددنا أربع علامات كبرى للتغير· الأولى التغير الحضاري الواسع المدى والمتعدد الأبعاد من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، والذي يتحول- ببطء وإن كان بثبات- إلى مجتمع المعرفة· والعلامة الثانية التغير الجذري الذي لحق ببنية النظام الدولي عام 1989 حين سقط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، والانتقال من النظام الثنائي القطبية إلى النظام الأحادي القطبية، والذي تبسط فيه الولايات المتحدة الأميركية رواقها على مجمل الفضاء العالمي بحكم قوتها العسكرية الفائقة ووزنها الاقتصادي ومبادراتها التكنولوجية· والعلامة الثالثة والبالغة الأهمية ظهور وبروز وتأثير عملية تاريخية كبرى هي العولمة، بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية· والعلامة الرابعة والأخيرة انفجار حدث عالمي غير مسبوق هو الأحداث الإرهابية ضد الولايات المتحدة الأميركية، والتي مثلت تحولا كيفيا خطيرا في مسار الإرهاب العالمي من ناحية، وأبرزت هشاشة مفاهيم الأمن القومي التقليدية في عصر العولمة من ناحية أخري·
ويمكن القول إن التغير الأول ونعني من الثورة الصناعية التي أنتجت المجتمع الصناعي إلى الثورة المعلوماتية التي أنتجت مجتمع المعلومات العالمي، يعد من أعمق التغيرات في تاريخ الإنسانية·
صحيح أن الإنسانية شهدت من قبل تغيرات ثورية في مسار التطور الحضاري للإنسان، وكان أبرزها الانتقال من مجتمعات الصيد إلى مجتمعات الزراعة· ولا شك أن تأسيس المجتمعات الزراعية أدى إلى نقلة حضارية كبرى للمجتمعات الإنسانية استمرت آثارها حتى الآن· وكانت النقلة الحاسمة الثانية الانتقال من المجتمعات الزراعية إلى المجتمعات الصناعية·
ولا نبالغ لو قلنا أن الانتقال إلى نموذج المجتمع الصناعي هو الذي أعطى للمجتمع الإنساني طابعه الحديث· فقد تمت إعادة صياغة كاملة للبناء الاجتماعي للمجتمعات التي دخلتها الصناعة مبكرا، مثل إنجلترا أو غيرها من الدول الأوروبية· وأدى ذلك إلى تثوير أنظمتها السياسية، وبروز الديمقراطية كنظام سياسي يتلاءم مع المجتمع الصناعي، وظهور طبقة اجتماعية جديدة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني هي الطبقة العمالية، وتشكيل المجتمع الحديث الذي يقود الصناعة فيه الرأسماليون والصناعيون، والذين دخلوا عبر الزمن في معركة اجتماعية وسياسية كبرى مع طبقة العمال، دارت رحاها حول الاستغلال وفائض القيمة وظروف العمل والتأمينات الاجتماعية· وكل هذه الموضوعات كانت مثار مناظرات إيديولوجية كبرى بين الماركسية التي ركزت على مقولة الصراع الطبقي كمفتاح لفهم طبيعة النظام الرأسمالي، والرأسمالية التي حاولت تحييد مخاطر الصراع الطبقي من خلال مشروع إصلاحي سعى إلى تحسين ظروف العمل والارتقاء بأحوال العمال من خلال سن مجموعة مترابطة من التشريعات التي تحدد أجور العمال، وتعمل على زيادتها كل فترة، والتأمينات الاجتماعية والصحية· وكان بسمارك في ألمانيا هو الرائد الحقيقي للتأمينات الاجتماعية للعمال، والتي أراد منها تحييد الآثار السلبية للصراع الطبقي· وقد لهثت الدول الأوروبية وراء هذا النموذج الألماني، وبعضها لم يستطع تقليد هذه التشريعات إلا بعد أربعين سنة من سنها في ألمانيا·
وأصبح نموذج المجتمع الصناعي هو النموذج الحضاري الأمثل الذي حاولت عديد من البلاد النامية التي تحررت من ربقة الاستعمار أن تحتذيه· وأصبح خطاب التصنيع بكل أبعاده هو الخطاب السائد، بل لقد كان في الخمسينيات والستينيات هو أساس وجوهر عملية التنمية المخططة في كل أرجاء العالم الثالث·
غير أن المجتمع الصناعي وصل- لأسباب شتى - إلى منتهاه منذ أكثر من أربعة عقود· بمعنى أن مرحلة الصناعة استنفدت أغراضها ووصلت إلى حدودها القصوى، وأدت الاختراعات الحديثة والتكنولوجيات المستحدثة إلى التبشير بقدوم نموذج جديد من المجتمع الإنساني، حار في تسميته علماء الاجتماع· ولذلك مما له دلالة أن أحد المراجع الكلاسيكية وهو الكتاب الذي ألفه دانيل بل أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية كان عنوانه المجتمع ما بعد الصناعي · وقد حاول دانيل بل ببصيرة ثاقبة وبنظرة مستقبلية خلاقة أن يرسم معالم المجتمع الجديد القادم، غير أنه لم يستطع أن يعطي له اسما محددا، لأن الملامح كانت غائمة حين كتب كتابه، ووجه المجتمع المستقبلي لم يكن واضحا الوضوح الكافي· الآن نعرف أن المجتمع ما بعد الصناعي ليس سوى مجتمع المعلومات العالمي الذي أصبحنا منذ عقدين تقريبا نعيش في ظله، والذي هو في الواقع ربيب الثورة المعلوماتية·
والثورة المعلوماتية التي أصبحت شبكة الإنترنت رمزها البارز مازالت في بداياتها، وإن كانت قد كشفت بالفعل عن عديد من تجلياتها في مجالات السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والاجتماع والثقافة· ومع أننا