لا شك أن أنماط الإنفاق التي تبنتها دول الخليج النفطية قد حققت الكثير من المكاسب النوعية لمواطنيها، فالنفط حقق عوائد مادية كبيرة أتاحت لدول الخليج تنمية بنيتها التحتية في فترات زمنية قصيرة، فأنفقت بسخاء على الخدمات التعليمية والصحية وغيرها من خدمات عادت على المواطن الخليجي بحياة يسودها الكثير من الرخاء الاجتماعي·
في المقابل، أسفر هذا النمط عن نشأة وتفاقم العديد من الاختلالات الهيكلية الاجتماعية والاقتصادية التي أدت بدورها إلى خلق أوضاع شبه جامدة أعاقت استثمار الطاقات البشرية الخليجية، حتى تحول الاستمرار في أنماط الإنفاق المالية وسياسات دولة الرفاه إلى تهديد جدي لمصالح الإنسان الخليجي وعائق لتفعيل دوره في تنمية بلاده· تلك الاختلالات الهيكلية تطرح جملة من التحديات لدول الخليج النفطية، كالعلاقة بين الإنتاج والأجور، التركيبة السكانية، هشاشة القطاع الخاص واعتماده على الإنفاق الحكومي، مفهوم المواطنة والانتماء وغيرها من قضايا جميعها تشكل تحديات كبيرة على هذه الدول مواجهتها واعتماد المكاشفة لتحقيق تنمية حقيقية لمجتمعاتنا ·
أحد أفدح الأخطاء التي ارتكبت في العقود الماضية كان تبني المنظور الذي يحصر مفهوم التنمية في النمو الاقتصادي وحده،دون قراءة حقائق التاريخ التي تؤكد أن دولاً كثيرة حققت معدلات نمو مرتفعة في متوسط دخلها، إلا أنها لا تزال عالقة في دائرة التخلف· فمؤشر النمو الاقتصادي بمعزل عن باقي المؤشرات لا يعكس بأي حال من الأحوال حقيقة الأوضاع التنموية في دول الخليج العربية ·
التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السريعة التي يشهدها العالم تفرض بدورها واقعاً جديداً وتدعو للتفكير بإعادة صياغة كثير من السياسات التي تنتهجها الدولة الخليجية التي تسيطر على معظم الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية ، كما تهيمن على مختلف مناحي الحياة حتى همشت قوى المجتمع وهيئاته والمجتمع المدني ومؤسساته والقطاع الخاص، وهي مطالبة بوضع تصورات مستقبلية لإعادة صياغة وتحديد دورها في عالم يشهد تحولات هائلة· الاعتماد على الدولة واستمرار الدول الخليجية في نهجها له آثاره السلبية، وإذا كان هذا النهج مفيداً في مرحلة من المراحل، إلا أن المعادلة لم تبق كما هي، فقد أدى ذلك النمط إلى تقليص دور المواطن في عملية البناء الاقتصادي والاجتماعي وفقدان المجتمع لحيويته وديناميكيته وتسبب في ظهور أنماط سلوكية استهلاكية مضرة بالإنسان الخليجي، فتبلورت عبر الأنماط السلوكية المرتبطة بطرق الإنفاق البذخي ما يعرف بالشخصية النفطية التي تمثل في كثير من الأحيان عبئاً على الدولة·
وأصبحت المواطنة في الشخصية النفطية مبررا لتوزيع الدخل بغض النظر عن حجم العمل أو الإنتاج مما أساء لقدرات الإنسان الخليجي وعطل طاقاته، وعزز في أحيان كثيرة نزعة التميز والفوقية لديه، وأطلقت الدولة العنان لتوقعات المواطنين ما دفعهم لتخيل أن مال النفط قادر على صنع المعجزات!
هناك حاجة ماسة لإعادة النظر بمفهوم الرعاية الأبوية التي ارتبطت بطبيعة البنى التقليدية في المجتمعات العربية والخليجية، فالدولة الأبوية لا يمكنها أن تصمد في وجه رياح التغيير ومحاولات التحول نحو نهج يعزز مفهوماً إيجابياً للمواطنة وفق أسس مختلفة ليست لها علاقة بمواطنة الامتيازات غير المشروطة التي أعطت الامتيازات المادية ببذخ، ولكنها في الوقت ذاته صادرت دور المواطن الطبيعي لصالح دور متضخم للدولة·