تتتابع الأحداث الدموية في فلسطين، متجلّية في كل أشكال القمع والقتل والتهجير وحرق المزارع وهدم البيوت واغتيال الانتفاضيين· أما القيادة الإسرائيلية، وعلى رأسها شارون، فتقوم بذلك محقّقة، كما يرى منظّروها الاستراتيجيون، خطوات جديدة على طريق “حرب الاستقلال” التي بدأوا بها مع بداية التأسيس العملي للمشروع الصهيوني في أربعينيات القرن المنصرم· ومن ثم، فإن ما يقوم به الجيش الإسرائيلي في فلسطين من احتلال لمناطق جديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة الآن، علينا أن نفهمه بمثابته “استكمالاً” لتلك الحرب، التي لعلها تنتهي مع احتلال فلسطين كاملة، إن لم نقل مع احتلال “المحور التوراتي: من النيل إلى الفرات”·
ويلاحظ أن إسرائيل، في ذلك، تسلك الطريق التي اختطتها النخب الإسرائيلية السياسية والعسكرية وفقاً للاستراتيجية، التي قامت عليها إسرائيل، ومن ثم وفقاً لضرورة التمييز بين “الاستراتيجي” و”السياسي” في علاقتها مع سكان فلسطين الأصليين “الفلسطينيين”، كما مع المحيط العربي إجمالاً· فـ”الاستراتيجي” يتحدد في المبدأ التالي، الذي صاغه بن غوريون منذ عقود، حين أعلن: نحن بحاجة إلى الهدنة مع الفلسطينيين كي نستكمل بناء دولتنا، بحيث يأتي “السلم” بيننا وبينهم بمثابة “المبدأ المطلق”· ولذلك، كان ذا أهمية منهجية وسياسية دقيقة أن نقرأ أحداث الاقتحام الجديد الإسرائيلي لمدينة رفح وغيرها، في ضوء ذلك “المبدأ الإسرائيلي الاستراتيجي”، كي لا يختلط هذا المبدأ ببعض الخطوات، التي ترغم إسرائيل على اتخاذها في الحقل السياسي التطبيقي·
وقد وضعت حنان عشراوي يدها على “اللامُعلن” في الحرب الشارونية الراهنة ضد الفلسطينيين، فأعلنت في مقابلة معها صدرت في “العدد 50 من مجلة الدراسات الفلسطينية” في بيروت: إن سياسات شارون التي تُشعل مفارقة زمنية بكل تأكيد، تنطلق من أنه يريد إرجاعنا إلى فكرة استكمال المشروع الصهيوني الأصلي، أي إلى الأصولية الصهيونية، بهدف إلغاء الهُوية الفلسطينية الوطنية وحق تقرير المصير الفلسطيني· وحقاً، إذا نحن دققنا فيما تفعله القيادة السياسية العسكرية الإسرائيلة ضمن فلسطين وخارجها (مع سوريا مثلاً حين هاجمت طائرات حربية إسرائيلية موقعاً فيها)· يتضح لنا أن ذلك هو بمثابة إصرار إسرائيلي على السّير في خط استكمال “حرب الاستقلال” الاستعمارية الاستيطانية· وبهذه المناسبة، لا يصح النظر -كما يفعل جمع من السياسيين والباحثين العرب وغيرهم- إلى ذلك “الإصرار” على أنه مجرد حماقة فجّة يرتكبها شارون وطواقمه· إنه، أي الإصرار المذكور، وجه من أوجه الاستراتيجية الإسرائيلية الصهيونية حيال فلسطين والوطن العربي، وإن أخذ ذلك طابع الحماقة الفجة والمناهضة للتاريخ ولمبدأ السيادة الوطنية·
في هذا وذاك، يُبدِي النظام السياسي العربي تقاعساً مذهلاً حيال ما تقوم به إسرائيل، وذلك إلى درجة التفريط بحقوقه التاريخية الشرعية وبحقوق الشعوب العربية، التي يقف على رأسها· وهذا النظام السياسي، الذي يريد أن يستر رأسه بأكوام من الرمال، يتجاهل أو يجهل (وكلاهما خطير إلى حدّ المأساة) ما يفعل الإسرائيليون في العراق، يداً بيد مع الأميركيين· فلقد أعلنت الأنباء منذ بعض الوقت أن إسرائيل فتحت في العراق “مركز بحوث” لن يطول الوقت حتى يعمّم هذا المركز معلوماته ودراساته على المثقفين والباحثين السياسيين العرب، إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه الآن!
إن متابعة “حرب الاستقلال” الإسرائيلية سوف تكتسي ألف صيغة وشكل· ولن يحق بعدئذ أن يقف المتقاعسون وقفة تأسّف، لأنهم سيكونون ضمن ضحايا الانكسار!