هل تستطيع أوروبا أن تكون قوة موازية لقوة الولايات المتحدة على المستوى العالمي؟
هذا ما لا يبدو الآن ممكنا مع ما أظهرت حرب العراق من انقسامات أوروبية حول المسائل الاستراتيجية، بين باريس وبرلين من جانب، ولندن ومدريد من جانب آخر· وفي الظرف الراهن يبدو أن الأمور يمكن أن تتطور في أكثر من اتجاه·
إن مفاتيح إمكانية قيام جهد دفاعي أوروبي ليست فقط حكرا على إرادة فرنسا أو ألمانيا (اللتان تبديان تحمسا لهذا المشروع أكثر من غيرهما)· ولكن هنالك من المفاتيح ما هو بيد بريطانيا العظمى التي تبدو مترددة حتى الآن، في هذا المسعى حتى لا نقول إنها معادية له، ذلك أن سياسة خارجية أو أمنية أوروبية ليست ممكنة من دون مشاركة البريطانيين· وفي الوقت الحالي، على الأقل لا يبدو ذلك ممكنا من دونهم· المشكلة هي أن بريطانيا العظمى تؤكد تمسكها الشديد بخيارات أوروبا وفي الوقت ذاته تلتزم دون قيد أو شرط بعلاقاتها الخاصة مع واشنطن·
- المشكلة هنا ليست من قبيل المشكلات الصغيرة! ففي كل مرة تشعر فيها لندن بوجود خلافات بين الطرفين الأوروبي والأميركي حول قضية استراتيجية، تبادر تلقائيا إلى الاصطفاف وراء الخيار الأميركي· ولم تكن حرب العراق سوى تكريس جديد لموقف ثابت من هذا النوع أصبح معروفا منذ الحملة الفرنسية البريطانية الفاشلة في السويس سنة ·1956
إن على لندن أن تراجع كشف حساب سياساتها طيلة الأزمة العراقية0 فهل تمت مراعاة المصالح الوطنية البريطانية حقا عندما ثابرت الحكومة البريطانية على لعب دور الحليف الوفي وصاحب الدور من الدرجة الثانية ودون قيد أو شرط للولايات المتحدة ؟ ثم ما هي أهمية شريك صغير دعمه وولاؤه مكتسبان سلفا ولا يضيفان بالتالي جديدا؟
لقد انطلق توني بلير على عكس رغبة جمهور شعبه إلى جانب الأميركيين في الحرب· فما الذي جناه من ثمار مقابل ذلك؟··· ونجيب نحن: لقد جنى نقمة عارمة من المواطنين البريطانيين أصبحت بادية الآن للعيان بشكل بالغ الوضوح وتعكسها بلغة الأرقام استطلاعات الرأي، وبلغة الوقائع نتائج صناديق اقتراع الانتخابات الجزئية· وفي حين كان يبذل قصارى جهده لإنقاذ حياته السياسية، مع اندلاع الحرب، فقد بادر دونالد رامسفيلد، إلى الإعلان بأن الولايات المتحدة يمكن أن تتحلّل من المشاركة البريطانية معها في الصراع· لقد كان ذلك كلاما لا يخلو من حقيقة أثناء الحرب· أما بعدها فإن الدعم البريطاني أقل ما يمكن أن يقال عنه هو أنه غير كاف· هذا دون أن ننسى أن إطلاق شرارة الحرب وقع على نحو همّش المملكة المتحدة أيضا، فقد كان الأميركيون يطمحون إلى الإيقاع بصدام من خلال استغلال عنصر المفاجأة· وأثناء ذلك بدت الولايات المتحدة كمن لا يقيم وزنا كبيرا لحليفتها المملكة المتحدة·
لقد كان سهلا تفهم النوازع التي تجعل توني بلير يبالغ في التقرب من كلينتون بحكم كون تقليعة >الطريق الثالث< الشهيرة تجمع بينهما· ولكن من أين لنا أن نجد تفسيرا مقنعا للنوازع التي تجعل رئيس وزراء إنجليزيا يزعم أنه >يساري<، يتبع بطريقة شبه عمياء؛ سياسات >المحافظين الجدد< الأميركيين؟! لسنا وحدنا قطعا من يجد صعوبة في فهم هذه المفارقة العجيبة ، بل إن الرأي العام البريطاني، أولا وأخيرا، هو من يتميز غيظا وحيرة إزاءها·
لقد شهد عقد التسعينيات تقلب ألمانيا على الجانب الأوروبي وانكفاءها عن الولايات المتحدة، واضعة بذلك حدا لتبعيتها لواشنطن التي كانت تفرضها عليها قبل ذلك، بشكل ملح، ضرورات وجود التهديد السوفييتي على أبوابها· وقد يشهد العقد الأول من هذا القرن الجديد، في المقابل، حركة في المواقف مشابهة تقدم عليها المملكة المتحدة، فتضع هي أيضا حدا لموقفها الحالي بعد أن تضجر من تبعيتها الاختيارية الطوعية للأحادية الأميركية·
لقد كان البريطانيون يتبجّحون بأنهم يبالغون في دعم المواقف الأميركية لكي يضمنوا لأنفسهم القدرة على ممارسة تأثير فعلي على قرار واشنطن· لكن هذا التأثير كان حقيقيا وقائما فقط خلال الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية· أما الآن فإن الفرص أمام لندن للعب دور كهذا تبدو شبه معدومة· فالأميركيون لديهم ميل إلى عدم الإنصات إلى أي كان، سواء في ذلك أولئك الذين تعتقد واشنطن أن دعمهم مضمون سلفا ومكتسب، وأولئك الذين تنقم عليهم أنهم ليسوا كذلك· ولا نستطيع الآن رؤية أي موقف دولي أميركي يوصف بأن البريطانيين أثروا عليه بهذه الطريقة أو تلك، مهما يكن، من مجمل السياسات الأميركية0 لقد أقدمت أميركا على مشروعات كونية دون أن تغير عمليا من خط مسلكها وتوجهها السياسي· فلماذا لا تستطيع بريطانيا بدورها اتخاذ توجهات ذاتية، حتى لو كان ذلك، على الطريقة الفرنسية أو الألمانية أو الروسية؟ لو توافرت إرادة كتلك فهل ستخرج مكانة بريطانيا في العالم معززة؟ أم أن العكس هو الصحيح؟ نعتقد أن الإجابة واضحة، وهي أن التبعية لواشنطن إلى هذا الحد تضعف من مكانة وهيبة بريطانيا على الصعيد الدولي، وقطعا تنال بشكل خطير من مكانة توني بلير على الصعيد الوطني البر