في وقت مبكر من حملة العلاقات العامة الأخيرة، الهادفة إلى إعادة بناء الثقة في المجهود العسكري الأميركي في العراق، ظهر (ديك تشيني) نائب الرئيس الأميركي في برنامج (لقاء مع الصحافة) محاولا التدليل على صحة الرأي الذي يقول إن الولايات المتحدة تحقق مكاسب في العراق. وفي هذا البرنامج قام (تشيني) بإيراد الملاحظة التالية: (هناك استطلاع رأي تم الأسبوع الماضي، وهو أول استطلاع أراه يتم بطريقة جيدة، على رغم أن الموضوعات التي تم استطلاع الرأي بشأنها عسيرة)·
تعليقا على ما قاله (تشيني) أقول إن مجلة (أميركان إنتربرايز) نشرت نتائج هذا الاستطلاع بطريقة أوصلت رسالة خاطئة سواء بشأن النتائج، أو بشأن مواقف الشعب العراقي الذي تم أخذ آراء عينة منه في الاستطلاع.
فعلى سبيل المثال علق (تشيني) في هذا البرنامج قائلا: عندما سُئل العراقيون عن نموذج الحكومة الذي يريدون أن يتخذوه مثالا ينشئون على غراره حكومتهم قالوا بدون دون تردد إنه (الولايات المتحدة). الحقيقة ليست كذلك، فالذي حدث في الاستطلاع هو أن 23 في المئة من العراقيين فقط هم الذين قالوا ذلك .
وكان مما قاله (تشيني) أيضا إنه عندما تم سؤال العراقيين: (هل يفضلون أن يروا القوات الأميركية والبريطانية وقد رحلت خلال ستة شهور، أو خلال سنة، أو خلال سنتين... فإن ما يزيد على 60 في المئة منهم قالوا إنهم يريدون من تلك القوات أن تمكث عاما آخر على الأقل). في حين أن النسبة الحقيقية كانت أقل من ذلك.
ومن الأشياء الأخرى التي توصلنا إليها من خلال ذلك الاستطلاع هو أن المواقف نحو الولايات المتحدة لم تكن إيجابية.فعندما تم توجيه سؤال إلى العراقيين عما إذا ما كانوا يعتقدون أن الولايات المتحدة ستكون مفيدة للعراق أم مضرة له خلال الخمس سنوات المقبلة؟ قال أكثر من خمسين في المئة من عينة الاستطلاع إنها ستكون مضرة، في حين لم تتجاوز نسبة من يعتقدون أنها ستكون مفيدة الـ35 في المئة.
إنه لأمر يبعث على الانزعاج أن يفهم نائب الرئيس ومجلة (أميركان انتربرايز) الأمر على هذا النحو المغلوط. كما أن إساءة استخدام أرقام الاستطلاعات كأداة في التوصل إلى أدلة ومبررات يريدون التوصل إليها، يشبه تماما ما قامت به الإدارة من إساءة استخدام لـ(المعلومات الاستخبارية) للتدليل على سلامة مبرراتها الخاصة بغزو العراق. الخطر هنا يكمن في أن رسم صورة وردية للأوضاع ليس لها وجود في الواقع العملي، هي وصفة مؤكدة للسياسات الفاشلة. فمجرد تمني حدوث الشيء ليس كافيا لتحقيقه .واستمرار الإدارة الأميركية في إخبار الشعب الأميركي بأن كل شيء يجري (على ما يرام) ليس له من معنى سوى أن التغيرات المطلوبة في السياسات لن يتم عملها.
وعلينا كي ندرك ذلك أن نمعن النظر في بعض نتائج الاستطلاع: فخمسة وخمسين في المئة أعطوا تقييما سلبيا للطريقة التي تتعامل بها القوات الأميركية مع المواطنيين العراقيين. سبعة وخمسون في المئة مقابل 38.5 في المئة قالوا إنهم سيدعمون قيام قوات عربية بحفظ الأمن في بلادهم. عندما تم سؤال عينة الاستطلاع عن الكيفية التي يمكن بها وصف الهجمات على قوات الولايات المتحدة في العراق وصف 49 في المئة منهم هذه العمليات بأنها عمليات مقاومة، ولم يصف هذه العمليات بأنها عمليات مدبرة من قبل فلول نظام البعث سوى 29 في المئة فقط.
عند السؤال عن الجهة التي يمكن أن يستعين بها العراقيون لإحلال الأمن واستعادة الاستقرار قال 6.5 في المئة إنها الولايات المتحدة ، وقال 27 في المئة إنها الولايات المتحدة والأمم المتحدة معا. وفضل 14 في المئة الأمم المتحدة فقط. وقال 45 في المئة إنهم يفضلون أن يقوم الجيش العراقي بهذه المهمة بمفرده ودون مساعدة من أحد.
هناك دروس مهمة ينبغي علينا تعلمها من خلال كل ذلك. وهي دروس يجب على صناع السياسة أن يعوها جيداً، إذا ما كانوا يريدون حقا للعراق أن يمضي قدما إلى الأمام. إن الشيء الذي يريد الشعب العراقي أن يقوله لنا هو أنه يشعر بأمل في المستقبل، ولكنه يريد المساعدة من جيرانه أكثر مما يريدها من الولايات المتحدة. ربما يكون هذا شيئاً غير ذلك الذي تريد (واشنطن) سماعه، ولكنها مطالبة بأن تستمع إليه مع ذلك. أما إذا ما استمر صناع السياسة في محاولاتهم لتحريف البيانات والمعلومات لتخدم سياساتهم المرغوبة، فإن النتيجة الوحيدة لذلك هي أن هذه الحفرة التي سيحفرونها سوف تزداد عمقا، وسيكتشفون في النهاية أنهم غير قادرين على الخروج منها.