مرت القضية الفلسطينية بأربع مراحل تاريخية هامة، وما يميز كل مرحلة تزايد قوة الدولة اليهودية وتنامي نفوذها وتحالفاتها؛ ووضوح قدرتها على استغلال الظروف والأحداث وتطويعها وتغييرها وفقاً لمصالحها وأهدافها ومتطلبات أمنها القومي ومستقبلها السياسي• يقابل تلك القوة وهذه القدرة تدهور تام في صفوف الفلسطينيين سواء على مستوى السلطة الفلسطينية أو المنظمات الفلسطينية الأخرى، والنتيجة الحتمية تراجع قدرة الشعب الفلسطيني وفقده لقواه اللازمة لتحقيق آماله في حق تقرير المصير وإنشاء دولته الفلسطينية المستقلة التي انحصرت في الضفة الغربية وقطاع غزة.
أما المراحل الحاسمة التي حققت لإسرائيل هذا التفوق التاريخي فهي:
(1) 1948: إنشاء الدولة اليهودية، ومقاومة الممالك العربية لها، ثم الحقبة الناصرية المفعمة بالشعارات والهزائم حيث انتهت باحتلال إسرائيل للعديد من المناطق العربية خاصة الضفة الغربية وقطاع غزة.
(2) 1977: عقد سلام منفرد مصري-إسرائيلي، أدى إلى تحييد مصر من معادلة المواجهة مع إسرائيل، وانفراد إسرائيل بالتعامل مع الفلسطينيين، وباقي دول المواجهة.
(3) 1993: بدء حقبة أوسلو وغيرها من الاتفاقيات الفلسطينية-الإسرائيلية بناء على ما جرى في مؤتمر مدريد ،1991 وهنا استغلت إسرائيل عجز القيادة الفلسطينية المتمثلة بعرفات عن فهم التغيرات والتطورات الدولية، واستطاعت التملص من جميع التزاماتها، فأدت هذه الحقبة إلى نهاية السلام الثاني الفلسطيني-الإسرائيلي بالانتفاضة الثانية.
(4) 2000: بداية الانتفاضة الثانية وما تلاها من أحداث الحادي عشر من سبتمبر ،2001 واستغلال إسرائيل حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب، وتحويل القضية الفلسطينية إلى مسألة إرهاب فلسطيني، وبالتالي استغلال شارون سلطة الولايات المتحدة العالمية وقدرة اللوبي اليهودي في تهميش القضية الفلسطينية• هذه المراحل التاريخية توصلنا إلى الواقع الفلسطيني الحالي وآفاقه المستقبلية• المشهد الفلسطيني الراهن يؤكد حقيقة واحدة مفادها أنه من الصعب أن تقوم دولة فلسطينية ذات سيادة واستقلال، اليوم أو في المستقبل القريب، والحل الوحيد أو الخيار النهائي هو قيام كيان فلسطيني إداري محدود يتولى فيه الفلسطينيون إدارة شؤونهم المحلية دون أية سيادة، والأسباب التي تقود إلى هذه النتيجة واضحة وتتلخص في الآتي:
(1) وجود عدد كبير من المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية التي أصبحت تحاصر المدن والقرى الفلسطينية في كل اتجاه، وبات من المستحيل أن تقوم إسرائيل بإزالة هذه المستوطنات.
(2) الضفة الغربية هي في العقل الإسرائيلي يهودا وسامرا، أي وفقاً لمعتقداتهم أرض إسرائيل التاريخية، ومن يريد نفي ذلك لا يفهم العقلية اليهودية ولا يعرف مدى تمسكها بالتاريخ.
(3) عدم وجود قوة دولية قادرة على الضغط على إسرائيل خاصة أن الولايات المتحدة بقيادة اليمين المسيحي تتوافق في تصوراتها مع اليمين الإسرائيلي المتطرف.
(4) عدم وجود إرادة عربية أو قيادة فلسطينية قادرة على صنع الحرب أو السلام.
(5) عدم فهم الفلسطينيين لطبيعة المتغيرات والتطورات الدولية المؤثرة على الصراع عبر تاريخه الطويل.
إضافة إلى كل ذلك هناك حقيقتان هامتان الأولى: أن الدعم الحقيقي للفلسطينيين يفترض أن يأتي من الدول العربية والشعب العربي، وهنا نجد أن القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني قد أخذا هذا الأمر على أنه حقيقة منطقية مستمرة، و لكن في الواقع نلاحظ أن الدعم العربي للفلسطينيين في تقهقر مستمر، فلا يوجد وجه مقارنة بين الدعم الذي تلقته القضية الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، والدعم الرسمي والشعبي الذي تتلقاه اليوم• وفي الوقت نفسه نرى القيادة الفلسطينية لا تحاول بناء العلاقات مع العرب، بل على العكس قامت القيادات الفلسطينية بتصرفات وإجراءات ومواقف خاطئة كان لها تأثير سلبي على العلاقات العربية-الفلسطينية.
أما الحقيقة الثانية، فهي أن الدعم الحقيقي لإسرائيل يأتي من الولايات المتحدة، ومن الواضح أن الولايات المتحدة اليوم هي الفاعل والمحرك الرئيسي في العلاقات الدولية، والمهيمن عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً• ولذلك تقوم إسرائيل من خلال المنظمات اليهودية الأميركية واليهود الأميركيين، بالسيطرة التامة والكاملة على صنع القرار الأميركي تجاه المنطقة• ولا تتوقف إسرائيل عند ذلك بل إن وجودها واضح في المجتمع الأميركي، ونفوذها كبير في الإعلام الأميركي،لدرجة أن المراقب أحياناً يشعر بـ"الشفقة" على الولايات المتحدة من جراء هذا الضغط اليهودي الكبير• هذه القوة الأميركية الضخمة مقيدة بحيث لا تستطيع أحياناً، من أجل إسرائيل، اتخاذ قرارات قد تحقق لها مصالح عديدة.
من كل ما سبق أصبح الفلسطينيون الطرف الخاسر، وعلى الطرف الآخر الإسرائيلي أن يعضد مكاسبه، ولذلك بات الوضع أشبه بالعلاقة بين "الصياد والفريسة"، ففي حين يفهم الصياد كل قواعد الصيد ومهاراته وأساليبه، ويجمع الصحبة التي