يذكّرك الأميركيون العقلاء عادةً بالمثل الشائع الذي يقول: لا تحل المشكلة إذا لم تكن موجودة (أي لا تحاول أن تجبر ما ليس مكسوراً)· لكن هل يعني ذلك أن هناك مشكلة، أو شيئاً مكسوراً، إذا حاولت حلها أو جبر المكسور؟ من المؤكد أن الأمر يبدو كذلك عندما تنظرون إلى تحول الأحداث منذ قام الحلف الأنغلو-أميركي بغزو العراق منذ 7 أشهر مضت·
وبدلاً من إدراك تخبط سياستها الدبلوماسية-السياسية حيال العراق (حتى في أفغانستان) والانكباب على تصحيح المشكلة، يبدو أن الولايات المتحدة ملتزمة بالسياسة المصابة بالإخفاق وبتعديل إدارتها للأمر بتصليحات بيروقراطية جديدة في واشنطن· وعلى أقل تقدير، يبدو أن الولايات المتحدة تطلق رسالة تعبر عن ذلك بتأسيسها مجموعة إحلال الاستقرار في العراق ، وهو ما يعني ، بمفردات أخرى، أن السياسات الأميركية حيال العراق لن تكون بعد الآن تحت إدارة البنتاغون، بل بإدارة مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي يساعدها في ذلك مجموعة خاصة·
ويصبح من الضروري أن نجري تدقيقاً سريعاً في الوضع إذا أردنا إطلاق حكم مؤقت حول التوجهات الراهنة، وسنجد أن النصر العسكري المذهل -الذي كان معظم الناس يتوقعونه في ضوء القدر الهائل من انعدام التناظر بين الخصمين- لم يُنتج، كما كان متوقعاً، حالة تؤدي إلى إحلال الاستقرار وإعادة الإعمار في العراق على نحو سلمي· وهكذا علق الجيش الأميركي،الذي لم يخضع للتدريب على إدارة النزاع الداخلي والأمن الداخلي، في المستنقع حيث يواجه تصادمات يومية ويمنى بالإصابات، وهو أمر لن يؤدي إلاّ إلى تعزيز المعارضة مع مرور الوقت·ومن المدهش أن الولايات المتحدة، التي عزت الجزء الأكبر من الإرهاب المضاد لمصالحها إلى وجودها العسكري في العربية السعودية، تتخذ موقفاً متصلباً في الإصرار على بقائها القوة المحتلة الوحيدة في العراق لمدة غير محددة،ولأجل غير مسمى· وتتدفق التقارير،التي تفيد بقدوم مقاتلين من خارج العراق، في ظل الاعتقاد بوجود حرب جهادية ينبغي خوضها؛ وإذا كانت مزاعم التقارير صحيحة، فإن من شأن ذلك أن يؤدي فقط إلى مزيد من العنف وإلى تقليص الاستقرار الأمني في المستقبل·
وقد ثبت عملياً خطأ الافتراضات الأساسية التي اعتمدها الحلف الأنغلو-أميركي في شن الحرب، إذ أنه شن حرباً دون أي شرعية أو سبب قابل للتبرير وفي وجه معارضة مجلس الأمن الدولي لإقرار تلك الخطوة· ولم يتم العثور على أي دليل يشير إلى وجود أسلحة التدمير الشامل في العراق، حتى بعد قيام 1500 مفتش أميركي بتفتيش دقيق جداً في المئات من المواقع· ومن المعلوم أن الدكتور هانز بليكس ، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي أصبح لاحقاً رئيس فريق التفتيش الأميركي، قد صرّح بكل وضوح بأن أية أدلة قد تعرضت، مهما كانت،للإتلاف قبل أكثر من عشر سنوات· وقد تم شن الحرب الوقائية على أساس افتراض أن العراق قادر على استخدام أسلحة التدمير الشامل في غضون 45 دقيقة، غير أن ذلك كما تبين افتراض مفبرك، إذ لم يتم اكتشاف أي دليل على وجود أية صلة بين العراق والإرهاب أو منظمة القاعدة ؛ وقد أدى ذلك إلى تزايد تعقيدات إدارة الوضع فيما بعد الحرب، إذ يرى العراقيون ومعظم بلدان العالم أن القوى المحتلة لا تتمتع بالشرعية التي تخولها حكم العراق· وهكذا كلما طال أمد هذا الوضع، ازداد تعقيده واشتد·
ومع حلّ الجيش العراقي المؤلف من أكثر من نصف مليون فرد (ومن غير الممكن اعتباره كله بعثياً أو خادماً لصدام حسين)، إلى جانب حلّ قوة الشرطة، ضاعف الأميركيون والبريطانيون مشكلاتهم بأيديهم· ومن الواضح أن الولايات المتحدة، بوجود نصف كتائب جيشها في العراق الآن، ليس لديها ما يكفي من الجنود لتعزيز القوة الموجودة هناك الآن والمؤلفة من 140 ألف جندي· وقد ثبت أن الحصول على قوات من البلدان الأخرى أمر أكثر إشكالية في ضوء رغبة الأميركيين في الإحجام عن مشاركة أحد في السلطة، لا المجتمع الدولي ولا حتى الحكومة العراقية في بغداد· ولم يتحقق النجاح للخطة الأميركية الرامية إلى استصدار قرار جديد من الأمم المتحدة لتمكين البلدان الأخرى من تقديم القوات، باعتبار أن الأسس لم تتغير· وقد صرح كوفي عنان بلا مواربة بأن القرار الجديد (الذي لا يحظى بالموافقة) يتجاهل توصـيته -أي عنان- بنقل سريع للسلطة إلى العراقيين· وبوقوع الهجمات المباشرة على بعثة الأمم المتحدة في العراق، ومقتل ممثلها الخاص، انخرطت الهيئة الدولية في تقليص حجم بعثتها الإنسانية هناك، وسيعني انسحابها من العراق كارثة تحل على الملايين من العراقيين الذين يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية·
وقد وجدت بلدان مثل الهند وباكستان، اللتين كان في وسعهما تقديم عدد كبير من الجنود من أجل إحلال الاستقرار، صعوبة متزايدة في وجه تدهور الأوضاع في العراق وإحجام الأميركيين عن مشاركة الأمم المتحدة في الحكم وإدارة الشؤون الأمنية بأي طريقة ذات أهمية ومعنى· وقد وافقت تركيا الآن على إرسال قوات إلى العراق، لكن مجلس الحكم المؤقت الذي عينته ا