في رسالة الإستئذان بالانصراف التي كتبها الصحافي العربي العالمي الكبير محمد حسنين هيكل التي أعلن فيها اعتزاله الكتابة بعد أن بلغ الثمانين من عمره، وهي رسالة في منتهى التهذيب والاحترام للقارئ العربي، وغاية في التواضع يناقض اتهام هيكل بأنه نرجسي ومتكبر· في هذه الرسالة، وفي سياق الإشارة إلى المرة الثانية التي راودته فيها فكرة الانصراف بعد أن كانت الأولى لحظة وفاة الزعيم جمال عبد الناصر وفي غرفة نومه، قال هيكل ما يلي:
طوال أيام الحرب من 6 وحتى 20 أكتوبر كنت مع الرئيس السادات كل مساء وحتى قرب منتصف الليل في قصر القاهرة وكان يقيم فيه أيامها ومعه مكتب اتصال يحتل بدروم الدور الخامس تحت الأرض·
وكتبت له خطابه الذي ألقاه في مجلس الشعب يوم 16 اكتوبر ،1973 وعندما عاد بعد إلقائه اتصلت به من الأهرام وأبلغته بما أعلنته رئيسة وزراء اسرائيل من أن جيش الدفاع الإسرائيلي يواصل عملياته ويتقدم غرب القناة (وكانت تلك أول أنباء عن الثغرة) وطلب أن أنتظره على التليفون دقيقة يتصل فيها بالمشير أحمد اسماعيل وعاد إلي ومعه طمأنينة لم أحسبها كافية وطلب إلي أن اتصل بنفسي بـ أحمد اسماعيل وأسمع منه وفعلت ومرة أخرى عاودني الشعور نفسه· وفي يوم 17 أكتوبر حضرت معه لقاءً واحداً ضمن ثلاثة لقاءات أجراها مع رئيس الوزراء السوفييتي أليكس كوسيغين وكان قد جاء في زيارة سرية للقاهرة ولم يكن ما سمعته مشجعاً·
ومساء 20 يناير ظهر الخلاف بيننا علنياً في موضوع قبول قرار مجلس الأمن رقم ·338 فقد أبديت تحفظات عليه وفي حضور المهندس سيد مرعي والسيد حافظ اسماعيل والدكتور أشرف مروان · وطرحت تعديلات على نص القرار، وكان رأي السادات أن السوفيت سوف يقومون بإخطارهم (الإسرائيليين) وعلقت بأنهم شركاء لنا في الحرب وليسوا شركاء السوفييت ولم يقتنع· ورجوته كخط دفاع مأمون ان ينتظر حتى يجيء المراقبون الدوليون لضبط خطوط وقف إطلاق النار، خصوصاً أن فريقاً منهم جاهز في قبرص ووصوله إلى هنا مسألة ساعات مع تذكير بتجربة أن الإسرائيليين لن يحترموا قراراً من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار بل سوف يستغلونه إلى أبعد مدى يستطيعون الوصول اليه· ورد علي أمام الجميع: بأن لديه تعهداً أميركياً مكتوباً بتوقيع نيكسون وهذا بحد ذاته أنفع وأجدى ألف مرة من أمم متحدة لا تحل ولا تربط ·
وقلت ما معناه: إنني مشارك لسنوات طويلة في اتصالات ومحادثات مع إدارات أميركية متعاقبة منذ سبتمبر ،1952 وبالتالي فقد خبرت مراوغات السياسة الأميركية وتعلمت أن أسمع -ثم أبحث- ثم أشك، ثم اكتشف ان الكلام في الخطاب الأميركي شيء والفعل نقيضه إذا لم يحاذر من يفهم الأمر·
ورد بما ملخصه: إن الاتصالات هذه المرة على مستوى آخر غير مسبوق· فهي بيني وبين الرئيس نيكسون وهي تحتوي على تعهدات مكتوبة موقعة بإمضاء رئيس أكبر دولة في العالم · وأضاف مؤكداً: إن الاتصالات هذه المرة تختلف في كل شيء عن كل ما سبقها ·
وعدت مرة أخرى عارفاً أنني أضغط على الرجل إلى درجة تقارب الالحاح، فأشرت إلى سابق تجارب اسرائيل مع العرب في استغلال قرارات وقف إطلاق النار بعد صدورها متجاهلة نداءات دولية وحججاً واتهامات توجه إليها بالغش· ولكنها تظل متمسكة بما قطفته أو نشلته في حماية قرار دولي أطاعه العرب وأصرت هي علـى عصيانه· ورد الرئيس السادات : قلت لك هذه المرة مختلفة لأن رئيس الولايات المتحدة بنفسه يدير الأزمة· وقد كتب إلي بما يبدد شكوكك وشكوك غيرك يبلغني أن طائرات الاستطلاع من طراز يو تو التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية سوف تحلق فوق خطوط القتال طوال اليوم حتى تصور المواقع على الجانبين وتكشف وتحدد أي الطرفين يغش وأيهما يلتزم· إذن فإسرائيل لا تستطيع التلاعب· وإذا حاولت فهناك لأول مرة من يستطيع ان يضعها في مكانها في الصندوقة !!!
ويضيف هيكل ان السادات أصر عليه أن يلتقي بـ هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الذي جاء إلى مصر، وحاول أن يعتذر لكنه عاد والتقى به وذهب إلى الرئيس يروي له تفاصيل ما دار بينهما وأهمها مخاوفي من أن مشروعه لحل الأزمة خطــير (خطوة بعد خطوة -والبلاد العربية المعنية واحدة بعد واحدة- وأية مفاوضات لابد وأن تجري تحت إشراف أميركي لا دور فيها للاتحاد السوفييتي ولا لأوروبا إلا عندما يحل دور المراسم والتشريفات)· وأبديت تخوفي من أن كيسنجر نفسه يصعب الاعتماد عليه لأنه بالضرورة منحاز وانحيازه طائفي وفكري وسياسي محكوم بصراع الحرب الباردة وليس بسلام عادل في الشرق الأوسط·
وكان رد الرئيس السادات: إن كيسنجر هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن ينجز المهمة فهو الساحر الذي أنهى الحرب في فيتنام وفتح باب الصين والذي لا يتفاوض حتى في الاتحاد السوفييتي إلا مع الزعيم ليونيد بريجينيف ولا أحد غيره· ثم إن كون كيسنجر يهودياً يجعله مهيأ للضغط على اسرائيل إذا اقتنع، وأنا واثق من قدرتي على إقناعه وفي ذهني تصور كامل !!
وبعد أيام من قراءتي نص رسالة هيكل نشرت وثائق أميركية تؤكد أن واشنطن أعطت اس