تعتبر الخطة غير الرسمية الجديدة التي توصل إليها مسؤولون إسرائيليون وفلسطينيون سابقون في جنيف في الثاني عشر من شهر أكتوبر الجاري، أول مسعى جاد ويحمل على التفاؤل بإمكان التوصل إلى حل سلمي للنزاع منذ انهيار محادثات طابا في عام ·2001 بل ويمكن أن تتمخض هذه الخطة عما هو أكبر من ذلك، إذ ربما تسهم في إطفاء نار الكراهية والعداء المتناميين في أوساط المجتمعات الإسلامية للولايات المتحدة الأميركية، سواء داخل حدود منطقة الشرق الأوسط أم خارجها· وإذا ما سمحت الولايات المتحدة لهذا العداء أن يستمر، فإن ذلك سيلحق أضرارا بالغة بمستقبلها في المنطقة، إضافة إلى الأضرار التي سوف يلحقها بحل الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية نفسها·
هذا وتمثل مبادرة جنيف موضوع هذا المقال، مسودة مفصلة للحل السلمي للنزاع، بمعنى أنها ليست مجرد خريطة توضح كيف يتم الانتقال من نقطة إلى أخرى· لذلك فهي شيء مغاير تماما لـ خريطة الطريق ، التي لم تكن سوى ذر للرماد في العيون منذ لحظة ولادتها· ذلك أن حكومة شارون لم تحرص على تطبيقها أو تبنيها فعليا يوما، بينما لم تبد إدارة بوش أدنى عزم على تنفيذها بما يلزم من جدية ومسؤولية· فلم يكن القصد من الخطة في الواقع، أكثر من استرضاء القاعدة الانتخابية الجمهورية وهي تمضي حثيثا صوب المعركة الانتخابية الرئاسية المقبلة·
مقابل الخريطة سيئة الذكر هذه، يمثل اتفاق جنيف الأخير استثمارا للجهد الخاص والوقت من قبل مجموعة إسرائيلية يقودها يوسي بيلين وزير العدل الإسرائيلي السابق في ظل حكومة إيهود براك، ومجموعة فلسطينية يقودها ياسر عبد ربه وزير الإعلام السابق وسكرتير السلطة الفلسطينية سابقا· وقد عقدت هاتان المجموعتان العزم خلال الاتفاق الأخير، على إكمال ما لم يكتمل في محادثات طابا التي انتهت إلى عقد شبه اتفاق نهائي وتسوية سلمية للنزاع في عام ·2001 وكان القصد هو البرهنة على قدرة الطرفين متى ما صــدقت النـــــوايا وتوفرت الإرادة السياسية اللازمة، على إمكان التوصل إلى التسوية التي نشدتها وسعت إليها محادثات طابا· يذكر أن كافة محادثات السلام التي أجريت في الماضي، من أوسلو إلى طابا، كانت جميعها تبدأ من نقطة الصفر وتترك مجالا زمنيا واسعا لما ظل يطلق عليه عملية بناء الثقة لتنتهي إلى طرق المشكلات المستعصية والوعرة التي تصطدم بها أية محادثات· وعند هذه العقبة الأخيرة يجد أعداء التسوية والحل السلمي ضالتهم المنشودة عادة، فيعملون على نسف المحادثات وإجهاضها في كل مرة·
في رصد ردود الفعل الداخلية على محادثات جنيف الأخيرة، قال الغلاة والمتطرفون من دعاة الكفاح الفلسطيني المسلح إنهم لا يريدون أية اتفاقيات أو خطط جديدة لأنهم لا يريدون لإسرائيل أن تبقى في الأساس· أما حكومة أرييل شارون المدعومة من قبل اليمين الإسرائيلي المتطرف، فقد رأت في الاتفاقية المذكورة ما وصفته بأنه ثمرة علاقة سرية وغير مشروعة مع العدو · وفي هذا المنحى نشرت صحيفة هآرتس الإسرائلية تعليقا لها مفاده : إنهم يزعمون أن الاتفاق يمثل جهدا لسحب البساط من تحت أقدام انتصار إسرائيلي وشيك على الإرهاب· غير أن كل من يظن أن الاتفاق المذكور سيحقق تلك الغاية المنشودة، يكون كمن لم يتعلم حرفا واحدا من دروس السنوات الثلاث الماضية· ذلك أن الإرهاب إنما تقوى شوكته ويتمحور حول شعاراته وتطلعاته الوطنية·
بيد أن الأطراف التي صاغت مسودة الاتفاق المذكور في جنيف -بمساعدة ودعم الحكومة السويسرية- قد وضعت نقاطا وحلولا تفصيلية لكافة المشكلات والعقبات التي تعثرت فيها المفاوضات السابقة· وإذا كانت الخطوط والأطر العامة لمشروعات الاتفاقات السابقة باتت معلومة لجميع الأطراف التي ترى فيها حلا مقبولا ومعقولا، فإن الجديد في الخطة الأخيرة هو أنها فصلت النقاط وكست العظم باللحم إن جاز التعبير· واليوم فقد أصبح الجميع يدرك أن إسرائيل قد باتت أمام ثلاثة خيارات لا رابع لها: أولها أن تقبل المبـــدأ الذي انبنت عليه مسودة اتفاق جنيف الأخير · والمقصود هنا التخلي عن الأراضي التي جرى احتلالها في عام 1967 على أن تخضع الخريطة الجديدة لهذه الأراضي للتفاصيل التي حددتها مسودة اتفاق جنيف- بحسبان أن ذلك هو الطريق المفضي إلى تواجد دولة إسرائيلة ديمقراطية مجاورة للدولة الفلسطينية المستقلة·
ثاني الحلول أن تواصل إسرائيل احتلالها العسكري للأراضي الفلسطينية في ظل الأوضاع الراهنة التي يشير فيها مستقبل التركيبة الديموغرافية للسكان إلى تفوق الفلسطينيين من حيث الكثافة السكانية على جيرانهم اليهود خلال الخمس أو الثماني سنوات المقبلة· وفيما لو حدث ذلك، فإنه إما أن تكف الدولة الإسرائيلية الديمقراطية عن الاحتفاظ بهويتها اليهودية، أو أن تكف الدولة اليهودية عن أن تكون دولة ديمقراطية، أي أن تكون دولة تمارس هيمنتها على أغلبية عربية متنامية ومحرومة من حقوقها المدنية·
أما الخيار الثالث -وهو الخيار الذي يبدو واضحا أن حكومة شارون قد فضلته على غيره -بمباركة وموافقة إدارة بوش- فيتمثل