لم تكن مدافع 6 أكتوبر 1973 ولا ذلك الهجوم السوري المصري الذي شنته جيوش الدولتين، هما ما شكل تاريخنا المعاصر وأعاد رسم ملامح عالمنا الراهن· بل الواقع أن ذلك إنما يعود إلى استخدامنا لـ سلاح النفط الذي استمر لمدة أحد عشر يوما، وما تبعه من ارتفاع جنوني وحاد في أسعار النفط العالمية· في ذلك الوقت الذي لجأت فيه منظمة الدول المنتجة والمصدرة للنفط أوبك إلى استخدام سلاح النفط، منذ نحو ثلاثين عاما من الآن، كانت اتجاهات الحرب والمعركة قد تغيرت· فقد اختطفت إسرائيل زمام المبادرة ، حيث عبر جيشها وجنودها إلى الناحية الغربية من قناة السويس، ولم تكن تفصله عن العاصمة السورية دمشق سوى مسافة تكاد لا تقدر·
تلك عينها هي اللحظة التي قطع فيها العاهل السعودي الملك فيصل علاقاته مع الأميركيين، ومضى باتجاه ما اتضح لاحقا أنه هجوم جبهوي على ذات الأسس التي انبنت عليها علاقات النظام الدولي الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية· ففي السابع عشر من شهر أكتوبر من عام ،1973 كانت منظمة أوبك قد رفعت سعر برميل النفط الواحد من ثلاثة دولارات إلى ما فوق الخمسة دولارات· وفي اليوم التالي مباشرة، خفضت إنتاجها من النفط بمعدل خمسة في المئة شهريا· أما في اليوم الثالث فأعلنت مقاطعة تقضي بوقف كافة صادرات النفط للولايات المتحدة الأميركية· ثم جاء شاه إيران ليعبر عن تمرده هو الآخر على طريقته الخاصة· فقبيل الاحتفال بأعياد الميلاد مباشرة، أعلنت طهران عن رفع أسعارها من المنتجات النفطية إلى 11,65 دولار عن البرميل الواحد· تمت هذه الخطوة بموافقة الدول الأخرى المنتجة والمصدرة للنفط·
نذكر أن الحدوتة الرئيسية في قصة ألف ليلة وليلة هي أن يصبح الملك شحاذا والشحاذ ملكا· وكذلك كان هو الحال عندما أعلنت منظمة أوبك مقاطعة تصدير منتجاتها النفطية للولايات المتحدة الأميركية· وكانت تلك الخطوة في الواقع، محاولة لتحويل الخيال الأدبي إلى حقيقة، وجعل الدول الغنية تموت غيظا من عجزها على رغم كثرة أموالها وغناها· وكان وزير الخارجية الأميركية وقتها هنري كيسنجر من بين أول الذين أدركوا هذه الحقيقة وفطنوا لها· فقد كتب في وصفه لتلك اللحظات في مذكراته قائلا: لم يسبق ولو لمرة واحدة في التاريخ أن تمكنت حفنة من الدول التي تعتبر مستضعفة نسبيا، من إحداث هذا التحول الدراماتيكي الهائل في نمط حياة الغالبية العظمى من سكان بقية دول العالم والإنسانية قاطبة، بذلك القدر الضئيل جدا من الاحتجاج والرفض· ثم إنه لم تكن ثمة دموع ذرفت على أفول العلاقات السائدة في النظام الدولي القديم في تلك الدول الغنية بالنفط وبلدان العالم العربي الإسلامي الواقعة على أطراف حدودها· فقد كانت شعوب هذه الدول تتحرق شوقا للحظة كهذه، دون أن تتمكن من رؤية تأثيراتها وتداعياتها المستقبلية بوضوح· فلا تزال الحركات القومية العربية والإيرانية الحديثة تتشكل دائما حول قضايا استخدام النفط· ولا تزال المرارة والمظالم التي تثيرها هذه الحركات القومية تدور حول حكايات انسلال المستكشفين والمنقبين والمستثمرين الغربيين في مجال النفط إلى حقول وثروات المنطقة، وكيف أنهم تسللوا من مجال النفط إلى مجال السياسة، ونجحوا في إخضاع المنطقة وتركيعها لنفوذهم هم· ويتراءى للكثيرين اليوم أن ملامح الأحداث قد شكلتها ورسمتها تلك الوقائع التاريخية·
وفي كل شبر على امتداد العالم العربي، فإنك لا تفتأ تشعر بتلك النشــــوة التي يحدثونك عنها، عن انتصارات تحققـت إثر هزائم، وعن ثارات أخذت، و كرامة مسلوبة اســـــتردت· فليس ثمة حلم بعيد المنال من تلك اللحظة فلاحقا· ففي وسع هذه الثروة الجديدة أن تجلب التكنولوجيا ووسائل التـــــــدريب اللازمة، فضلا عن تأمين ما يتطلبه انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في عام ·1967 وكان في الحسبان أن في الإمكان اختزال دورة الزمن والتاريخ نفسها وإلحاق الشعوب والدول الفقيرة في المنطقة بركب التطور والتكنولوجيا، وإخراجها من جحيم الفقر بسحر هذه الثروة الجديدة· وبالنسبة للعارفين بالتاريخ، فقد كانت ثروة النفط أشبه بعملية استعادة جديدة للتاريخ، بركة ثانية من البركات الإلهية التي انعم الله بها على شبه الجزيرة العربية، وفضلا خصها الله به مثلما خصها من قبل بفضل الإسلام ونعمته·
غير أن الهوة الاقتصادية بين الفقر والغنى لم تردم، ونشأت المسافات والفوارق الاقتصادية والثقافية في المنطقة بين من يرون في نمط الثقافة والحياة الغربية نموذجا يحتذى، ومن ظلوا على فقرهم وتشبثهم بأهداب الماضي وتحسرهم على اندثار ملامحه· فكان طبيعيا أن يحدث الاصطدام الحاد بين تيار الأمركة Americanization والتيار الآخر المضاد الذي حول مراراته هذه إلى شعلة من الحقد والكراهية للولايات المتحدة الأميركية ولكل ما يمت إليها بصلة·
استعادة لأحداث وصفحات ذلك التاريخ، فإننا نستطيع أن نرى كيف أن النفط قد تحول من نعمة إلى نقمة في المنطقة· ففي إيران كان الشاه محمد رضا بهلوي -وهو أحد أبرز مهندسي سياسات