تعكس الكلمات بمعانيها ومدلولاتها معاني ومفاهيم غير تلك الظاهرة لنا· ويهتم علماء اللغة الاجتماعية بسبر أبعاد وأغوار الكلمات والمصطلحات للتعرف على المفاهيم وأبعاد المعاني التي تعكس بين ثناياها زوايا اجتماعية ومفاهيم للناطقين بلغة ما، فالكلمات تحمل المعنى، والمعنى يعكس مفاهيم إدراكية عبر تراكم الزمن، ويختزل تجارب الشعوب وخبراتها·
وقد استوقفتني كلمة قدم بمعانيها ومشتقاتها المتعددة التي ترتبط جميعا بمفهوم التقدم -سواء بالحركة أو بتقدم الوقت والزمن· فمنها اشتقت كلمة قدم جمع أقدام والتي نسبت إليها كرة القدم· ومنها أيضا جاءت كلمة التقدم إلى الأمام، والتقدم مرتبط بالشجاعة، فلقد ربط العرب من يتقدم إلى الأمام في مواجهة القادم من الأعداء أو التطورات بالشجاعة والجرأة، فيقال فلان رجل مقدام· والتقديم في اللغة يعكس الأهمية والأولوية، ويقدم فلان على فلان لأن الأول أكبر سنا من الثاني أو أرفع مقاما وهكذا·
كما أن القدَم هو الفعلة الحسنة، فيقال لفلان قدم، أي أن له فعلاً حسناً·
و القدايم عند البدو هي ماضي الأفعال، فقد قال شاعر نبطي يحب الكيف والدخان في زمن كان العثور عليه شحيحا:
يا ويل ويلي خلص التتن مني
وقدايمي عند الشواريب عفنات
أي يتحسر الشاعر على انتهاء التبغ لديه، وهو لم تكن قدايمه وأفعاله في الماضي كريمة عند من يشربون التبغ كي يطلب منهم لفافة تبع يعدل بها مزاجه، وينفث من خلال نفخ دخانها همومه، لأنه لم يكن كريما مع من يشاطرونه ولع المزاج، ولفة الكيف·
ولكن أكثر ما استوقفني عند مفاهيم الإقدام والتقدم والحسن من الفعل كمعان مشتقة من كلمة قدم ، هي أن هذه المعاني مرتبطة أيضا بالتراجع والسمالة -أي العتق· فالقديم بال وخلق، والجديد تقدم وتطور، ولا أعرف كيف يمكننا أن نخلط المفهومين المتناقضين زمنا ومعنى مع بعضهما بعضا؟ ترى! هل يعكس هذا عدم التفريق في الذهنية العربية بين الماضي والمستقبل؟ وكيف يمكن لزمنين متناقضين أن يعبر عنهما بكلمة واحدة؟ فتقادم الزمن يعني مروره إلى الأمام، ويعني أيضا تراجعه إلى الوراء، ولكن كيف يمكن لهذين المفهومين أن يجتمعا معا؟ أي كيف يمكننا أن نعبر عن التقدم والتراجع بالكلمة نفسها؟·
ولقد زخرت أدبياتنا الثورجية ، وعجت كتيباتنا الانقلابية بكلمة التقدم والتقدمية، كند لدود للتراجع والرجعية طيلة الخمسين سنة الماضية، والنتائج لكل ذلك الكلام التقدمي-التراجعي واضحة للعيان، فلا التقدمية تحققت، ولا الرجعية تقدمت· ترى! هل كانت لذلك علاقة بأن التقدم والتراجع واحد في لغتنا؟ ومن ثم كانت التقدمية تعني التراجع، والرجعية تعني التراجع أيضا؟
إذا كانت اللغة بمعانيها تعكس مفاهيم اجتماعية للمتحدثين بها، فإن من الواضح أن كلمة قدم بمعانيها تحتاج إلى التوقف عند أبعادها الاجتماعية في العقلية العربية واستيعاب بعض من دروسها في فهم إدراكنا لمعنى التقدم إلى الأمام والتراجع إلى الخلف·