نتحدث بموضوعية لا علاقة لها برغباتنا الشخصية· فنحن نتحدث عن سيناريوهات/احتمالات، ونتحدث أيضا عن الخيارات المتاحة فعلا! ذلك أن الخيارات مرهونة دوما بعلاقة جدلية بين ما هو رغبة أو اختيار ذاتي وبين الواقع المادي الموضوعي الذي قد يسمح أو لا يسمح بتلبية الرغبة أو الاختيار الذاتي ، علما بأن هذا الأمر الأخير له أحيانا القول الفصل في حسم السيناريوهات، بمعنى أن القرار الذاتي الشجاع قادر في أحيان كثيرة على تقليص الخسائر لو عجز عن تعظيم المكاسب· ونسارع بالتساؤل: إزاء المعطيات الراهنة، محليا وإقليميا ودوليا، ما هي أفضل الخيارات/السيناريوهات المتاحة، أو غير المتاحة، واقعيا أمام الرئيس الفلسطيني؟
بسبب كون الرئيس عرفات رجلا مسلما مؤمنا متدينا (بشكل منفتح على الديانات الأخرى وبخاصة على الديانة المسيحية) فإن أفضل الخيارات بالمطلق، وكذلك عند أبي عمار شخصيا، هو خيار: الاستشهاد· والخيار هذا عند الختيار (اسم التحبب الذي يطلقه كثيرون على الرئيس عرفات) نابع من حقيقتين يؤكدهما عنه عارفوه: أولاهما تدينه الذي يجعل عنده الاستشهاد قيمة سامية ينشدها بقوة، وثانيتهما أن الرجل مسكون بالتاريخ على نحو شديد (إلى درجة اعتبار البعض لهذه الحقيقة نوعا من الحالة المرضية )! وفي سياق الحديث عن أفضلية خيار الاستشهاد، سمعت من بعض الخبثاء الفتحاويين وغيرهم الذين يعرفون (أو يزعمون) معرفة الرئيس معرفة وثيقة أنه متمسك بالحياة إلى درجة أن خيار الاستشهاد غير وارد عنده! ومثل هذا الاستخلاص -في ضوء معرفتي الشخصية الطويلة بالرئيس- يتضمن ظلما له! صحيح أن أبا عمار ليس من النوع الذي يرمي بنفسه إلى التهلكة! وصحيح أيضا أنه ليس مغامرا أهوج بل هو يحاول جاهدا أن تكون مغامراته من النوع المحسوب · كذلك، صحيح الافتراض أن الرئيس الفلسطيني لن يبادر إلى الاستشهاد إلا إذا يئس تماما من إمكانية استمرار الحياة كما تعود عليها أو كما ينشدها (أي في موقع الصدارة)· وعليه، فإن أبا عمار -ذاتيا- لن يقبل على الاستشهاد إلا إذا اضطر لذلك تحت وطأة ظروف إما أنها لا تتيح له سوى هذا الخيار، و/أو هروبا من خيارات أسوأ· ومثل هذا الموقف مفهوم لكل من يعرف حوافز المتدينين الذين يستحوذ عليهم الاستشهاد استحواذا· ذلك أن الخيط رفيع جدا بين من يطلب الاستشهاد على هذا النحو وبغير ما ضرورة تقتضيها المصلحة العامة··· وبين الانتحار ! وعن هذا الأمر الأخير ثمة نهي قاطع في الإسلام· لكن يبقى السؤال الكبير: هل يقبل أعداء أبو عمار بأفضل الخيارات عنده (أي الاستشهاد)؟! وهل سيسمحون له بنيل ذلك الشرف، علما بأن في استشهاده إضراراً فورياً، وأيضا بعيد المدى، بمصالحهم؟!
وإذا كان خيار الاستشهاد هو أفضل خيارات الرئيس، فإنه أيضا -طالما أنه لا مناص منه- أفضل الخيارات لشعب مجاهد مثل الشعب الفلسطيني، ولقضية عادلة مثل قضية فلسطين، ذلك أن الرمز يكون عندئذ بمستوى الممارسة، وتبقى ذكراه عطرة (أكثر من الموت لـ موتة ابن الوليد على فراش المرض في ظروف المواجهة الراهنة)· وموتة البعير هذه شكى منها القائد العربي/الإسلامي الفذ خالد بن الوليد حين قال على فراش الموت بحسرة ما بعدها حسرة: وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير · طبعا، نحن ندرك أن الموت حق ، ومرهون بإرادة الخالق، لا يستقدم فيه المرء هنيهة ولا يستأخر ··· حتى لو كان في أبراج مشيدة· لذلك، فإن خيار الموت ليس خيارا متاحا برغبة ذاتية عند أي إنسان وبالتالي فإنه ليس بالخيار المتاح عند الرئيس عرفات· وبناء عليه، فإن هذا الخيار هو ثاني أفضل الخيارات ليس لأن موت الرئيس الفلسطيني أمر مفضل عند مريديه، أو عند من هم على الحياد تجاه شخصه، بل لأن فعل الوفاة -إن حصل في ظروف الحصار والصمود التي يعيش في ظلها الرئيس- يرقى إلى نوع من الاستشهاد لكنه بالتأكيد دون مستوى الاستشهاد فيما لو كان وقع في معركة مواجهة·
أما الخيار الثالث المفضل عند الرئيس والمفضل بالتأكيد عند غيره (بل إن كثيرين يقدمونه على الخيارين السابقين) فهو أن تحدث معجزة ويتم التوافق بين كل الأطراف المعنية على اتخاذ قرار جديد يعيد التعامل أميركيا وإسرائيليا مع أبو عمار ، أي التوقف عن اعتباره غير ذي صلة ، وأن يتم طبعا مقرونا بإنهاء سجن أبو عمار بهذه الطريقة التي تعكس قسوة بالغة، بل تماديا في قلة الأدب والأخلاق الدوليين! ونحن نتحدث هنا عن حدوث معجزة حيث الاحتمال الأغلب بأن قرار الإفراج عن الرئيس (إن حدث أصلا!) لن يحدث إلى حين انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولن يحدث قطعيا طالما أن شارون لا يزال صانع القرار في الدولة العبرية! وما من تطور ينبئ بغير ذلك حتى عام (2004) اللهم إلا إذا جرى تدخل ربّاني أنهى حياة شارون قبل ذلك (علما بأن الأمر المرجح في حال وفاته هو صعود بنيامين نتنياهو سيئ السمعة والصيت)!
ونختم بالخيار الرابع الذي يتجسد في خيار الاستقالة إن كان هذا -حقا- خيارا متا