تمثل الفترة بين الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية، فاصلا زمنيا حساسا وحافلا بالتحولات في تاريخ الوطن العربي الحديث والمعاصر، وهي حقبة حملت الكثير من عوامل الحراك الداخلي، فضلا عن تحديات الصراع الطاحن بين القوى الكبرى حول السيطرة على الأقاليم والولايات العربية التابعة حينذاك للخلافة العثمانية· وقد أنتجت هذه المرحلة بواكير وعي سياسي حديث وبداية ظهور التنظيمات الحزبية في عدد من البلدان العربية؛ فما هي محفزات وبواعث ذلك الوعي وملامحه؟ وكيف تجلت تنظيميا من خلال الأحزاب والجمعيات السياسية؟·
يحاول الدكتور مهدي امبيرش في كتابه التنظيمات والأحزاب السياسية في الوطن العربي ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية ، إبراز العوامل التي أثرت في ظهور تلك التنظيمات الحزبية كرد فعل على الأحداث التاريخية في ذلك الوقت، وتعبيرا عن التيارات والاتجاهات السائدة حينها في الوطن العربي·
وقد جاء الكتاب في 250 صفحة من الحجم المتوسط، تتوزعها ثلاثة أبواب تحتها ستة فصول· في البابين الأول والثاني، تركز اهتمام المؤلف على أوضاع الوطن العربي في الفترة التاريخية ما بين الاحتلال التركي والحرب العالمية الأولى، ثم الآثار التي خلفتها هذه الحرب على تلك الأوضاع· ويقدم في الفصل الأول من الباب الأول، عرضا تاريخيا مستفيضا حول نشوء الإمبراطورية العثمانية وبداية انهيارها، وكيف أدى الضعف الإداري والانهيار العسكري الذي واجهته الإمبراطورية، حين أصبح الانكشاريون معول هدم وعامل إضعاف لها، إلى إغراء الدول الأوروبية بالسيطرة على أجزاء مهمة من هذه الإمبراطورية الشاسعة· فاتجهت الحملة الفرنسية إلى مصر بقيادة نابليون بونابارت، ثم حاولت بريطانيا احتلال مصر أيضا بعد خروج الفرنسيين· ومع الهزائم المتكررة التي منيت بها جيوش الإمبراطورية التركية، أدت التهديدات الأوروبية إلى تعبئة الشعور العربي في مواجهة الأطماع الاستعمارية الأوروبية والى إدراك الضعف الذي وصل حال القوات التركية إليه، فقوى ذلك من شعور العرب بإمكانية الانتصار والتحرر·
ويبين المؤلف كيف أدت صنوف الاضطهاد والبطش التي تعرض لها العرب خلال عهد السلطان عبد الحميد وجماعة الاتحاد والترقي ، إلى ظهور محاولات لتنظيم الجماهير العربية في مواجهة العداء العثماني· ويقدم أربعة نماذج لتلك المحاولات، اثنان منها اتخذا طابع العلنية، وهما حزب اللامركزية الإدارية العثماني الذي تم إنشاؤه في القاهرة سنة 1912 على يد جماعة من السوريين المقيمين في مصر، ثم المنتدى الأدبي الذي أنشأه في العام التالي مجموعة من الموظفين والنواب والطلاب العرب في العاصمة التركية·
أما التنظيمان اللذان اتخذا طابع السرية، فأولهما الجمعية القحطانية ، وهي جمعية ذات دعوة قومية عربية واضحة، وقد تم تأسيسها سنة ·1909 وثانيتهما جمعية العربية الفتاة التي نظمت مؤتمر باريس 1913 وتبنت الدعوة إلى تحرير العرب من سيطرة الأتراك·
ويشتمل الكتاب على عرض مطول حول الثورة العربية التي أعلنها حسين بن علي شريف مكة، اثر اتصالات مع البريطانيين في وقت كانت لندن منشغلة بمحاولاتها لإيقاف النفوذ الألماني والحد من الأطماع الفرنسية في منطقة الشام· ثم جاءت اتفاقية سايكس-بيكو لتقسيم المشرق العربي، حيث خانت بريطانيا وعودها للشريف حسين حول مملكة عربية تشمل شبه الجزيرة العربية والعراق ومصر والشام، الأمر الذي سيذكي أشكالا من الرفض والمقاومة العسكرية والسياسية في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى·
ويناقش المؤلف نماذج من التنظيمات الحزبية العربية التي ظهرت في ذلك الوقت واستمرت حتى الآن· ففي خضم الرفض والمقاومة ضد إعلان الحماية البريطانية على مصر، ظهر حزب الوفد في عام ،1919 حين طالب سعد زغلول باشا بتكوين وفد مصري إلى مؤتمر الصلح ، سيتحول إلى حركة تستغل زخم نضال الجماهير · وقد سبق حزب الوفد الحزب الوطني و حزب الأمة و حزب الإصلاح كنتاج للاضطهاد الذي كان يعانيه الفلاحون والعمال وعامة الشعب· ثم تأسس الحزب الاشتراكي المصري في عام ،1921 قبل أن يتحول إلى الحزب الشيوعي المصري في العام التالي· وكرد فعل عليه قام حسن البناء بتكوين جماعة الإخوان المسلمين سنة ،1928 وفي سنة 1933 أنشأ أحمد حسين حركة أسماها مصر الفتاة · وردا على سياسات الاحتلال البريطاني في السودان، ظهر في سنة 1938 مؤتمر الخريجين، قبل أن يتحول من مؤتمر ثقافي إلى مؤتمر سياسي سينشق إلى قسمين؛ أحدهما يطالب بالوحدة مع مصر والثاني يدعو إلى الاستقلال· وقد استمر هذا الوضع في السودان إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية·
وعرفت تونس عدة حركات سياسية؛ أهمها حركة تونس الفتاة في عام ،1919 ثم الحزب الحر الدستوري التونسي الذي شكله عبد العزيز الثعالبي في عام ·1920 وبعد نفي الثعالبي، قاد الحبيب بورقيبة انشقاقا داخل الحزب ليكون حزب الدستور الجديد الذي تبنى المطالبة بالاستقلال عن طريق التفاوض والتفاهم مع فرنسا·
وتكونت في الجزائر عام 1926 جمعية العلماء المسلمين كرد على