لم يعد العرب وحدهم يرثون أمتهم ويبكون وفاة العرب كما فعل قبل عشر سنين شاعرهم الكبير نزار قباني، يوم كتب قصيدته الشهيرة التي يقول فيها (إذا أعلنوا يوماً وفاة العرب ففي أية مقبرة يقبرون ومن سوف يبكي عليهم؟) فالصهاينة أيضاً يتحدثون عن موت الصهيونية، وقد برزت بحوث (ما بعد الصهيونية) كظاهرة تأريخية منذ أواسط الثمانينيات، حيث تصاعد التساؤل عن جدوى احتلال جنوب لبنان، مع ظهور المؤرخين الجدد الذين أعادوا النظر في الرواية الرسمية للهولوكوست، ومع ولادة بحوث اجتماعية حلت محل البحوث الإيديولوجية التي انتهت مهمتها في حرب يونيو التي رسخت وجود إسرائيل، وأنهت خوف الإسرائيليين من إمكانية أن يحقق العرب تهديدهم العشوائي برميها في البحر· ولكن حرب أكتوبر سرعان ما أعادت الهواجس إلى الإسرائيليين، وجعلت كثيرين من اليهود المترددين في الهجرة إلى ما يسمونها أرض الميعاد يتراجعون ويفضلون الاندماج في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، إلى أن حدث التطور الدراماتيكي المثير في اتفاقية أوسلو التي كشفت الستار عن المخبوء في الكواليس الذهنية للصهيونية، على رغم محاولة التدرج في إظهار الحقيقة عبر البدء مما سمي بـ ما يمكن التفاهم حوله من الملفات وإرجاء ما يصعب التفاهم حوله إلى ما سمي بـ مفاوضات الحل النهائي التي لم يفاجأ أحد بوصولها إلى الطريق المسدود في كامب ديفيد الثانية· يومها أعلن باراك لاءاته الخمسة، وكان طبيعياً أن تصدق رؤية يوري ساريد بأن تتحول اتفاقية أوسلو إلى مقصلة تقطع رأس كل من سار على دربها· ولئن كان رأس رابين قد قطع من قبل شاب يهودي أمضى خدمته العسكرية في لواء جولاني الشهير (ولهذا الانتماء العسكري دلالة نبّه الإسرائيليين إليها، البروفسور يارون إزراحي) فإن سياسيين إسرائيليين كبارا من وزن بيريز وباراك ونتنياهو سقطوا كما سقط كثيرون من سياسيي الصفين الثاني والثالث على طريق سلام كاذب ومخادع عبر اتفاق مجحف بحق الفلسطينيين، لم يأخذ موقعوه الإسرائيليون في الحسبان خطر كونه سيمنح الحقيقة فرصة الظهور لأول مرة ولو بألوان دموية قانية·
لم تكن كتابات أستاذ الفيزياء إسرائيل شاحاك أو أستاذ الكيمياء بني بيت هالاحمي تحظى باهتمام لائق عند المتعلقين بالوهم الصهيوني، فهما غير مختصين بالتاريخ· لكن ظهور كتابات توم سيغيف في أواسط الثمانينيات (وهو صحفي في هآرتس) هزت النخبة الإسرائيلية حين نزع القدسية عن الآباء المؤسسين، واعترف بأن المستوطنات التي يدعي القادة الإسرائيليون أنها تجمعات تقدم نماذج متفوقة للعدل والتكافؤ والمساواة -بحيث تجتذب المزيد من المهاجرين- هي في الحقيقة تجمعات عدوانية تبث الكراهية والبغضاء وتدعو إلى الاعتداء على السكان الأصليين العرب الفلسطينيين· وقد أظهرت كتابات عديدة واكبت كتاب سيغيف (الإسرائيليون الأوائل) وكتابه (المليون السابع) تفضح حقيقة أشد مرارة وقسوة على الإسرائيليين حين تمت تعرية الرواية الرسمية للهولوكست، واعترف المؤرخ الجديد بأن تجمعات المستوطنات رحبت بالهولوكست وبما حلّ بيهود أوروبا لأن النتيجة صبت في صالح أصحاب مشروع الهجرة إلى أرض إسرائيل موئل الخلاص الأخير· وفي هذه المرحلة من نهاية الثمانينيات ظهر كتاب يارون إزراحي عن رصاصات المطاط، الذي تحدث فيه عن تفسخ الرواية الصهيونية إلى نسخ متضاربة وعن تفكك الصهيونية إلى قومية دينية تقابلها قومية علمانية، أو ليبرالية دينية تقابلها ليبرالية علمانية، وهذا أمر عادي، لو أن واحدة من المكونات الصهيونية المفككة، تمكنت من إيجاد حل نهائي لمشكلة التعامل اليهودي مع الآخر الفلسطيني الذي بقي مشكلة الصهيونية المزمنة ·
وحين كشف بني موريس في كتابه (ولادة مشكلة) عام 1987 عن أساليب إسرائيل في تهجير الفلسطينيين وسمى بن غوريون بالطارد الأكبر للعرب، كشف للأجيال الجديدة من الإسرائيليين زيف ما كان يروج من أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم طواعية لليهود، وكشف جذور فكرة الترانسفير في الإيديولوجيا الصهيونية وأسطورة أرض الميعاد·
ولقد تمكنت إسرائيل من تحقيق تقدم هائل لمشروع إسرائيل الكبرى في أواخر الثمانينيات مستفيدة من المتغيرات الدولية التي نعتقد أنها لم تأت بالمصادفة، مثل انهيار الاتحاد السوفييتي وخسارة العرب جداراً استراتيجياً مهماً كانوا يستندون إليه، ومثل تداعيات الحرب العراقية الإيرانية التي جاءت مدمرة للمشروعين القومي والإسلامي معاً، فضلاً عن إنجازها الأخطر حين تمكنت من شق الصف العربي عبر طرح حلول سلام فردية فككت بنية الرؤية العربية للصراع، فجعلته قطرياً بعد أن كان قومياً، ومثل توسيع دائرة الاحتلال للأرض العربية عبر احتلال لبنان، إلى أن جاءت الضربة القاضية حين غزا صدام الكويت، فلبى العرب دعوة أميركا إلى مدريد متنازلين عما قبل 1967 قابلين بما لم يكونوا يتصورون القبول به· وتردد شامير في لعبة مسرحية سبقت دخوله اللعبة، وهو يضمر غير ما يعلن، وقد حققت إسرائيل عبر هذه الأحداث التي تسارعت لصالحها تفوقاً عسكرياً وتقنياً هائلاً عل