في أحد المؤتمرات التي حضرتها جلس لمدة ساعة أكثر من خمسمائة مدعو، بما فيهم علماء ومفكرون وبحاثة وقادة سياسة وإعلام، ينتظرون وصول رمز سياسي هام ليشارك في حفلة افتتاح ذلك المؤتمر ويلقي خطاباً روتينيا مملا· التفت الى صاحبي الجالس بجانبي، وهو كاتب ومفكر معروف، وقلت له بتأففٍ وشعور بالمهانة: ألا ترى أن الذي يحدث اليوم ليس قصوراً تنظيمياً أو إدارياً وإنما قضية فكرية وقيمية بامتياز؟ سألني: كيف ؟·
قلت إنها تتعلق بموضوع هالة الهيبة التي يصر المجتمع البشري على وضعها فوق رؤوس كل رموز السلطة· فمنذ القدم برع خدم السلطة والسلاطين في بناء تلك الهيبة في إشكال من الصور والممارسات التي لاحصر لها ولاعد· رموز السلطة الدينية في العصر الفرعوني مثلاً بنوا هيبتهم من خلال الادعاء بامتلاكهم علوماً لا يعرفها غيرهم وبقدراتهم الخارقة على الاتصال بعالم الحياة العلوية، وكذلك من خلال ممارسة طقوس غامضة في أماكن العبادة·
لكن أكبر جهد في بناء الهيبة تركز في حقل السياسة وخصوصاً بالنسبة لرموز سلطتها الكبار· في الحفلات العامة يجلس الحاضرون لأوقات طويلة حتى يحضر الرٌمز، وما أن يطل على الناس حتى يقف الجميع في سكون تام أو في ضوضاء تصفيق حاد· في الشوارع العامة يجب أن يتوقف السير وتتعطل مصالح العباد حتى يمر موكب الرمز بصفاراته وزركشة حرسه وتلويح الأزلام والخدم· في المطارات تصطفٌ الرموز الأصغر ويتجمع الوجهاء للتوديع أو الترحيب بالمقدم في كرنفالات عسكرية تتبعها أشكال من التعابير الجسدية الدالة على الخضوع والرهبة والإنبهار· في الأناشيد وفي كل صنوف القسم يتصدر الرمز مكانة لا تعلو عليها إلا مكانة الله، ويتراجع الوطن· في الألقاب تؤكد الإشارات المبطنة للقوة والعلو والسعادة· في القيام بالواجب يختصر الفعل في كلمات الإيعاز والتوجيه و الأمر و التكرم و التفضل · في المجالس العامة يجلس الرمز على كرسي أكبر وأعلى من كل الكراسي لتأكيد إطلالة الرفعة والتفوق والتفرد·
والنتيجة؟ طقوس الهيبة تبني الأسطورة، والأسطورة تولد الخوف، والخوف يؤدي الى الخضوع والاستسلام·
يحدث ذلك في كل المجتمعات وفي كل الأنظمة· ما الحل؟ إنه يكمن في الثقافة السياسية التي تهيئ الناس والمجتمعات للانتقال الى الديمقراطية والعدالة والمساواة· مطلوب، كجزء أساسي من هذه الثقافة، كسر الأسطورة وبالتالي الشفاء من الاستعداد النفسي المفجع للخوف والاستسلام· والأسطورة لن تهزم إلا إذا ترسخ في وجدان الناس وعقولهم بأن الوصول الى السلطة، كل أنواع السلطة، والبقاء فيها يجب ألا يتم إلا من خلالهم وبرضاهم ومن أجلهم وبمراقبة من قبلهم·
بالنسبة لعالمنا العربي والإسلامي وضع العلي القدير رسله في حالة التواضع والبساطة إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق · قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي · لكن نفراً وضعوا الآداب السلطانية التي ركزت على طقوس الهيبة وميزت العامة عن الخاصة وألحت على المماثلة بين السلطات في الأرض والله في الكون فكان أن دخلت مجتمعاتنـا في طقوس الهيبة وأساطيرها، وكان ما كان. ليس الاعتراض على الطقوس كمراسم· الاعتراض على ما وراءها وعلى ما تحدثه في النفوس.