فقط عندما أكمل أحمد قريع أبوعلاء تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة أدرك أن صعوبة مهمته قد تصل إلى مستوى الاستحالة· ربما اعتقد قريع أن فشل زميله وصديقه، ومنافسه أيضاً، محمود عباس أبومازن يرجع إلى صدامه مع الرئيس ياسر عرفات وإخفاقه في تجنب مواجهته مع الرجل الذي ما زال قوياً على رغم الحصار المضروب حوله والنفي المهدد به· غير أن تدهور العلاقة بين رئيس الوزراء السابق ورئيس السلطة لم يكن العامل الوحيد الذي أدى إلى فشل أبومازن ، على رغم أهميته· كما أن تجنب الصدام مع عرفات ليس سهلاً، لأنه تعود على امتثال من يختلفون معه لموقفه في النهاية·
لقد حاول محمود عباس إحياء المسار السلمي على أساس خطة خريطة الطريق في ظروف غير مواتية· ففي إسرائيل حكومة يمينية تضم في صفوفها أقصى اليمين وعلى رأسها رجل لا يعير انتباهاً إلى المسار السلمي لأن لديه أولويات أخرى أكثر أهمية مثل إكمال بناء الجدار الفاصل الذي سيقضم ما بين 30 و40 في المئة على الأقل من مساحة الضفة الغربية، وإنهاك فصائل المقاومة الفلسطينية إن لم يكن القضاء على بنيتها الأساسية، وتصفية الحساب التاريخي مع عرفات·
هذا الموقف الإسرائيلي الذي يكفي، ابتداء، لإغلاق الطريق أمام أي مسار سلمي يؤدي إلى تعقيد الوضع الفلسطيني على نحو يجعل من الصعب على أي رئيس وزراء أن يتعامل معه· فالفصائل الأساسية، بما فيها حركة فتح التي يفترض أن يستند إليها رئيس الوزراء، في حال استنفار شديد مصحوب بقدر من العشوائية والتخبط· وكلما تواصل إرهاب الدولة الذي تمارسه حكومة شارون، ازداد نفوذ العناصر الأكثر تشدداً في كل الفصائل، واختل توازن القوى في داخلها لمصلحة أجنحتها العسكرية التي تضع الرد على الاعتداءات الإسرائيلية في مقدمة جدول أعمالها بمنأى عن أي خط سياسي أو رؤية استراتيجية·
وكل هذا في وضع دولي هو الأسوأ في تاريخ قضية فلسطين· فالقوة الأعظم تقبل إرهاب الدولة الإسرائيلي اعتقاداً في أن المقاومة الفلسطينية تشبه الهجمات التي تعرضت لها واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر ·2001 ولذلك يردد الرئيس الأميركي من وقت إلى آخر، في تعليقه على الضربات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، أن بلاده ستفعل الشيء نفسه إذا تعرضت إلى مثل هذا الموقف· وليست المشكلة محصورة في الموقف الأميركي، إذ أدى افتقاد فصائل المقاومة المسلحة الحكمة السياسية اللازمة في مرحلة الحرب على الإرهاب ، إلى اقتراب القوى الدولية الأخرى من الموقف الأميركي·
وكم كان مؤلماً أن يلقي اجتماع اللجنة الرباعية الدولية في أواخر سبتمبر الماضي اللوم على الفلسطينيين أكثر من إسرائيل وتحميلهم المسؤولية الأولى عن تعثر جهود تطبيق خريطة الطريق · وعندما يصدر هذا الموقف عن الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، وليس فقط عن أميركا، فهذا مؤشر بالغ الخطورة على حال قضية فلسطين الآن· وقد سبق ذلك الاجتماع قرار الاتحاد الأوروبي إدراج الجناح السياسي لحركة حماس في قائمة الإرهاب·
وفي مثل هذه الظروف، تبدو مهمة أي رئيس وزراء فلسطيني مستحيلة أو تكاد تكون كذلك، بغض النظر عن تحفز عرفات من البداية ضد محمود عباس وتأييده لأحمد قريع في البداية أيضاً· وإذا كان وقوف القوى الأعلى صوتاً في حركة فتح ضد أبومازن هو القشة التي قصمت ظهر حكومته، فقد استقبل بعض هذه القوى أبوعلاء بموقف لا يختلف كثيراً قبل أن تبدأ يومها الأول· ولم تنتظر مئة يوم وبضعة أيام قبل أن تسفر عن موقفها بوضوح تام· ففي منتصف الأسبوع الماضي، صدر بيان بتوقيع كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح أدان حكومة الطوارئ التي كان أبوعلاء قد استقر على تشكيلها في ذلك الوقت، ووصفها بأنها المؤامرة الأخيرة على عرفات واعتبرها مصنوعة في المطبخ الأميركي لاسترضاء من يسعون إلى إراقة الدم الفلسطيني ، وليس أدل على التخبط من أن بيان الكتائب هاجم صيغة حكومة الطوارئ خوفاً منها على عرفات الذي كان تبين في اليوم التالي لإصدار البيان أنه هو من كان يتمسك بهذه الصيغة· كما هاجم البيان أحمد قريع شخصياً وتبنى اتهاماً كان بعض أعضاء فتح المتشددين قد رددوه منذ سنوات، وهو أنه وافق على إنشاء مستوطنة أبوغنيم جنوب القدس المحتلة· وهي المستوطنة التي كان الشروع في بنائها عام 1996 قد أثار ردود فعل فلسطينية وعربية واسعة، لأنها كانت أكبر توسع استيطاني إسرائيلي منذ اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية·
وعندما تصاعد الخلاف على طبيعة الحكومة، أدرك قريع أن المشكلة التي يواجهها في الحركة التي ينتمي إليها أكبر من أن يمكن حصرها في اندفاعة وغضب شباب الكتائب · وهكذا واجه قريع مبكراً جداً المتاعب التي صادفها سلفه عباس وأدخلته في طريق مسدود· وهي متاعب من النوع الذي لا يفيد فيه كثيراً رضا الرئيس عرفات عنه· كما أن هذا الرضا ليس مضموناً كما ظهر عندما حدث الخلاف على طبيعة الحكومة في نهاية الأسبوع الماضي·
وفضلاً عن ذلك فالفروق الطفيفة في التكوين الشخصي بين قريع وعباس لا تكفل نجاح الأول حيث فشل الثاني، وخصوصاً أن ات