في التسعينيات، قضيت جلّ وقتي في التركيز على الأزمات الاقتصادية في العالم- ولا سيما أزمات العملة التي ضربت جنوب شرق آسيا في عام 1997 والأرجنتين في عام ·2001 ومن الصعب التنبؤ بتوقيت وقوع هذه الأزمات، غير أن هناك إشارات تحذيرية، كحالات العجز في الموازنة وفي الميزان التجاري وتعاظم أعباء الدين·
وهناك أمر لا أتمالك نفسي عن ملاحظته، وهو أن بلداً من بلدان العالم الثالث سوف يكون بلا أي شك على قائمة المراقبة إذا كان يعاني من حالات عجز ضخمة في الميزانية والميزان التجاري ويعتمد أكثر فأكثر على القروض القصيرة الأجل من بقية دول العالم·
أنا لست الوحيد الذي يظن ذلك· لقد كان لدى الأخوين ليهمان نموذج رياضي معروف باسم نموذج داموكليس ، وهو يحدد نظام إنذار مبكر لتحديد درجة احتمال دخول البلدان في أزمات مالية · إن تطوير الأمم يبدو آمناً إلى حد ما هذه الأيام، لكن تطبيق النموذج ذاته على بعض البلدان المتقدمة سوف يقرع أجراس إنذار داموكليس · ويضيف البيان الصحفي للأخوين ليهمان أن الولايات المتحدة هي الأوضح بين هذه التهديدات ·
لا بأس، دعونا نتصفح بسرعة بعض الحجج المضادة التي تبعث على الاطمئنان·
أولاً، الاقتصاديون بارعون في استنباط النماذج التي كان من شأنها، لو جرى استخدامها، أن تتنبأ بالأزمات الماضية، لكن كل أزمة جديدة تحدث خارج نطاق توقعاتهم الزمانية والمكانية· ولذا ليس من الضروري أن تكون تجربتنا متشابهة، على رغم أن عجز الميزانية لدينا (الولايات المتحدة) أكثر ارتباطاً بالاقتصاد من العجز في الأرجنتين في عام،2000 وإن عجزنا التجاري أكثر ارتباطاً بالاقتصاد من العجز التجاري في أندونيسياعام ·1996 ثانياً، للأزمات السيئة في بلدان العالم الثالث روابط كثيرة بالحقيقة التي مفادها أن ديونها بالعملة الأجنبية، والمعتاد أن تكون بالدولار· والنتيجة أن الديون انفجرت عندما انخفضت قيمة البيزو والروبية في حين لم تنخفض قيمة الموجودات، ولم تنهر بيانات الميزانية· وعلى النقيض من ذلك، وبفضل الدور الدولي الذي يلعبه الدولار، يبقى الدين الخارجي الأميركي المتعاظم بعملتنا الخاصة·أخيراً، هناك على وجه العموم استعداد في الأسواق المالية لإعطاء البلدان ميزة الاستفادة من الشكوك: أي حتى عندما يبدو أن أحد البلدان المتقدمة غارق في حفرة مالية، يفترض المقرضون عموماً أن ذلك البلد سيجد بطريقة ما الموارد والإرادة السياسية اللازمة للتسلق من الحفرة والخروج منها·
إذاً، هل أميركا في أمان، على رغم أرقام العجز المفزعة؟
إن بلدان العالم الثالث تعاني عموماً من الضعف المؤسساتي، إذ أن حكم الشركات فيها يعاني من الضعف: أي لا يمكن للمرء أن يضع ثقته في شركات المحاسبة، ثم إن المتنفذين والمطلعين على بواطن الأمور يقومون بإثراء أنفسهم على حساب أصحاب الأسهم· وفي غضون ذلك، تنتشر المحسوبيات والعلاقات والروابط الشخصية والمالية القوية الوثيقة بين الساسة أصحاب النفوذ والشركات ذاتها التي تستفيد من السخاء العام الحكومي· ومن حسن الحظ أننا في أميركا لا نعاني من أي موطن من مواطن الضعف هذه· لكن مهلاً···إننا نسمع من جديد تحذيرات تقول لنا إن التفاؤل يستند إلى المكاسب الخاضعة للتدليك ·
وعلى رغم ذلك، ليس هناك شك حول امتلاك الولايات المتحدة للموارد اللازمة لكي تتسلق من الحفرة المالية وتخرج منها· لكن السؤال يدور حول ما إذا كانت تمتلك الإرادة السياسية·
إن هناك فجوة بنيوية هائلة لن تزول حتى إذا تعافى الاقتصاد، وهي بين إنفاق الولايات المتحدة وعائداتها· وفي الوقت الحاضر، يمكن للاقتراض أن يسدها، لكن لا بد في نهاية المطاف من وجود زيادة كبيرة في الضرائب أو اقتطاعات كبرى من البرامج الشعبية· وإذا لم يتمكن نظامنا السياسي من دفع نفسه إلى انتقاء خيار أو آخر، فإننا سنواجه في نهاية المطاف أزمة مالية خطيرة جداً·
لن تأتي الأزمة على الفور، بل ستبقي أميركا لبضع سنوات قادرة على الاقتراض بحرية، والسبب ببساطة أن المقرضين يفترضون أن الأمور ستسير على ما يرام بطريقة ما· لكن عند نقطة معينة، سنبلغ لحظة حرجة كما يحدث لـ وايل إي كويوت ؛ وأقول لأولئك الذين لا يعرفون مسلسل رود رانر الكرتوني إن السيد كويوت كان يجري مبتعداً عن الجروف الصخرية ويخطو بضع خطوات في الهواء قبل أن يلاحظ أنه معلق لا يقف على شيء تحت قدميه، ثم يهوي كالعادة إلى الأسفل فقط عندما ينتبه·
كيف سيكون شكل تلك السقطة؟ سوف تقتضي بلا شك هبوطاً حاداً في قيمة الدولار، وارتفاعاً حاداً في معدلات الفائدة· وفي سيناريو الحالة الأسوأ، سينقطع أمام الحكومة السبيل إلى الاقتراض، الأمر الذي يخلق أزمة ستقذف الأمة في هوة الفوضى· أعرف أنكم ستقولون إن الأمر برمته يبدو غير جدير بالتصديق· لكن هل كنتم ستصدقون، منذ ثلاث سنوات، أن ميزانية الولايات المتحدة، ستهوي بسرعة من مرتبة الفائض القياسي إلى هوة العجز القياسي؟ وهل كنتم ستصدقون أن زعماءنا في وجه ذلك السقوط سيقدمون الأعذار بدلاً من الحلول؟
ـــــــــــــــــ