تعرض قناة الفوكس الألمانية هذه الأيام طرفاً من تدمير المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية· وعرضت مدينة هامبورج الساحلية وقد تحولت إلى كرة من النيران بعد أن فر مليون وقتل في أسبوع ثلاثون ألفاً من سكانها· وبقي 800 ألف بدون مأوى· وأظهر الفيلم الذي كان بدايات الأفلام الملونة الشعب الألماني عاريا معذبا جائعاً· وعندما دخلت أنا ألمانيا للتخصص في الثمانينيات كان الناس يعيشون في أرض تفيض لبنا وعسلا وزبدة فسبحان مقلب الأحوال· وتلك الأيام نداولها بين الناس· وكان قيام ألمانيا كما يقول (مالك بن نبي) من هذه القيامة الأرضية معجزة· ويقول الرجل إن هذا هو الفرق بين (بناء) الحضارة و(شراء) الحضارة· فلو أن ألمانيا أرادت أن تنفق ما في الأرض ذهبا ومثله معه ما أمكن لها أن تعيد بناء مدينة واحدة ولكنها بإرادة الحضارة أعادت بناء ألمانيا وعلى نحو أفضل· وعرض الفيلم شهادات الناس المتبقين من تلك الأيام وقد أصبحوا شيوخا وعجائز· وكان ظنهم أن قرنا آخر لن يعيد ألمانيا إلى ما كانت عليه· والذي حدث أن ألمانيا قامت من الرماد· ومن عظام المدن نشأت مدن حديثة جميلة· ويقول بعض ممن رأيت كانت الحرب في صالحنا فقد مسحت المدن القديمة فبنينا ألمانيا جديدة تلمع كتمثال الرخام تحت أشعة الشمس واحترام العالم · وكلامه يحمل نصف الحقيقة فلا يشترط الحرب والتضحية بخمسين مليونا من الأنام كي تبدأ حملة البناء· ولفت نظري حديث هانس آبل وهو سياسي ألماني مخضرم فقال إن هامبورج أصبحت مثلاً في التدمير فبدأ الحلفاء في استخدام مصطلح همبرة؟ أي أن يكون نموذج تدمير هامبورج نموذجا يحتذى لبقية المدن، وهذا الذي كان في تدمير العاصمة الجميلة برلين· حيث بدأت حملة من ألف طائرة في فبراير 1945 لهدمها وألقت سبعين مليون طن من القنابل عليها تمهيدا لدخول السوفييت إليها من الشرق· ولكن معركة برلين كانت ضارية وذكرت قناة الديسكفري مقتل ثلاثة ملايين من الناس فيها وما حولها؟ ويقول هانس آبل إن غورنج مارشال الجو قام بزيارة إلى مدينة هامبورج وقد تحولت إلى رماد ودخان في السادس من أغسطس عام 1944 فأراد الناس أن يقولوا له أهذه هي مزاعمكم أيها النازيون في نقل الناس إلى جنتكم فحولتم الحياة إلى جهنم تتلظى· يقول آبل ولكن لم يتجرأ أحد أن يقول خوفاً على حياته· وهذا القانون إنساني عام يشترك فيه الألماني مع العربي· وعندما نطق الخطيب في جامع أبو حنيفة النعمان في بغداد بعد رحيل طاغية دجلة سنخرجكم أيها الأمريكان كان مقطوع اللسان لمدة أربعين سنة فلم ينطق حرفا· ويجب أن يكون عندنا من الشجاعة أن نعترف كما اعترف هانس آبل السياسي الألماني· وهذا يذكر بالمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي حينما فاجأ الرئيس الروسي (نيكيتا خروتشوف) الحضور بهجوم شامل ساحق على شخصية ستالين الطاغية· وهو مؤتمر شكل نقطة تحول في تاريخ البلشفية قبل أن تنهدم نهائياً مع مجيء غورباتشوف· وقف خروتشوف يعدد جرائم ستالين وسأل: كيف يحدث مثل هذا فيتسلط فرد على رقبة أمة؟· استمع الحضور بإنصات مرعب فالكل له قصص درامية مع الطاغية· ثم قطع الصمت صوت رجل من طرف قاعة غاصة· ولماذا سكت أنت؟ وما منعك أن تقول شيئاً؟ تفجرت الكلمات مثل قنبلة في القاعة فساد صمت رهيب قطعه خروتشوف بعد أن سكت لعدة ثوانٍ: من القائل أين هو؟ لم يمد أحد يده· ولم ينبس أحد ببنت شفة واستولى على القاعة صمت رهيب أشد· وقف خروتشوف لعدة ثوانٍ صامتاً ثم قال: والآن هل علمت لماذا سكت أنا ولم أفعل شيئاً؟ إنه تماما مثل الذي فعلت أنت؟ وكان جوابه أبلغ من كل حجة· كان خروتشوف أيام ستالين يعلم تماماً أن أي اعتراض على الطاغية يعني مصير صاحبه قتلاً على صورة ما· ويقول صاحب كتاب نهاية التاريخ (فوكوياما) إن نظرة سوء من ستالين كانت تجعل صاحبها يرتعش فرقاً كل حياته· وخروتشوف لو أراد أن يجادل ويبرهن لمدة ساعات عن موقفه مع ستالين ما استطاع ذلك ولم يقنع أحداً من الناس· ولكنه بهذه الحركة كان جوابه أكبر من كل جواب· ويقال أحياناً إن الصمت أبلغ في الإجابة من كل جواب· وإن كلمات قليلة تغني عن شروح موسعة· وإنه ليس كل كلام يعلق أو يرد عليه أو يفند· وتبقى الكناية أفضل من الإفصاح· والترميز أنفع من المواجهة أحياناً· والصمت أفضل من الكلام· وفي موقف قد يكون الكلام من فضة ولكن السكوت من بلاتين؟