نشر أمير طاهري، الكاتب الإيراني المعروف، قبل أيام مقالاً تهجمياً وتجريحياً بحق إدوارد سعيد يمكن اعتباره أسوأ ما كتب في حق الراحل الكبير في السنوات الأخيرة· النص الذي جاء تحت عنوان إدوارد سعيد وعلي شريعتي طرحا الأسئلة الخاطئة ، نشر في واحدة من أكثر دوريات المحافظين الجدد الأميركية تطرفاً في الثالث من شهر تشرين أول، أكتوبر، الجاري، ومنشور على الموقع الألكتروني للدورية المذكورة (2003 , ReviewOnline , 3 Oct National ).
طاهري في مقاله الذي يغازل به المحافظين المتطرفين ويشجع شهوتهم بالهجوم على سعيد يتهم هذا الأخير بأنه ينسب للغرب كل الشرور، وأنه أستاذ تبرير كل اخفاقات العالم الثالث بالمشجب الغربي· إبتداء، لا بد من القول إن من يقرأ مقالة طاهري المتسرعة وبالغة السطحية والمدهشة ينتهي إلى واحد من استنتاجين: إما أنه متحامل وملكي أكثر من الملك في دفاعه عن التنوير الذي قام به الاستعمار الغربي في الدول المستعمرة ، أو أنه ببساطة لم يقرأ سعيد وإنما قرأ بعض ما كتبه عنه خصومه اليمينيون الذين يكتب طاهري نصا إسترضائيا تافهاً في دوريتهم· طاهري يقول إن أطروحة كتاب الاستشراق يمكن اختصارها ببساطة كالتالي: الغرب وحش استعماري خرج عن حدوده للسيطرة على العالم، وإلتهام ثرواته، وإفقار شعوبه، ولتوريط الإنسانية في حرب مستديمة · أما خلاصة ونتيجة الكتاب فهي الأخرى يراها مبتسرة كالتالي: العلاقة الوحيدة الممكنة بين الغرب وبقية العالم هي الصراع المستديم · ليس ثمة أتفه على الإطلاق من هذه القراءة والابتسار لكتاب الاستشراق· كثيرون انتقدوا الاستشراق ، وكثيرون كان نقدهم موضوعياً، لكن ما من أحد مهتم بالقضايا والشؤون التي انهمك فيها الاستشراق إلا ويقر لسعيد بأنه فكك ما كان يعتبر من المسلمات في كثير من البروج العاجية الأكاديمية في الغرب· وكما قرض كثيرون سعيد، فإن دراسات الاستشراق، ودراسات ما بعد الاستعمار بعامة، صار يؤرخ لها بحقبة ما قبل سعيد، وما بعده· مع ذلك، فسعيد ليس قديساً فوق النقد، ولا هو أراد أن يكون كذلك، ويخطىء محبوه إن رقوه لمرتبة ما فوق النقد·
لكن أن يكون النقد الموجه لسعيد، أو لأي غيره، مبنياً إما على قلة دراية بما كتب، أو مستنداً على مقولات شائعة هنا وهناك، أو مؤدلجاً ويستهدف شراء مواقع استئثار عن شرائح معينة ذات نفوذ كبير، فهو مرفوض وممجوج· ونقد طاهري يأتي في هذا السياق جملة وتفصيلاً· فسعيد لم يكن معادياً بالتعريف والطبيعة لكل ما هو غربي· بل إن تشكله الذهني والمعرفي وشغفه الموسيقي وجل اهتماماته واستمتاعاته كانت غربية المزاج، بالمعنى الثقافي والإنساني للكلمة· ما كان يكرهه هو الغرب الاستعماري الإكراهي والمتوحش، وهي كراهية يتوافق معه فيها كل من له أدنى حس وضمير في الفضاء الغربي نفسه قبل أن نقول خارج ذلك الفضاء ·
طاهري يدرك أن نقده لسعيد سيكون له وقع الندى على يباس الحاقدين على سعيد، فطاهري ابن الثقافة وابن المنطقة، ولنقده طعم آخر· بل هو أراد في نقده التجريحي لسعيد أن يضفي لمسة أوسع، وأسوأ، لشرائح القراء اليمينيين الأميركيين الذين يخاطبهم بالتظاهر بأنه ناقد ذاتي فأقحم في نقده المتعجرف لسعيد نقداً لمثقف عالمي آخر، من إيران هذه المرة، ويعد من طلائع مثقفي العالم الثالث هو علي شريعتي· طاهري يضع سعيد وشريعتي في سلة واحدة هي سلة المتهجمين على الغرب بمناسبة وبدونها، ويرسم صورة غير حقيقية عن الإثنين تدغدغ رغبات خصومهما· يقوم بذلك بدون أدنى حس للموضوعية والنزاهة· فهو يتهمهما بالدفاع الطهراني عن مجتمعات العالم الثالث وتنزيهها من كل العيوب، ونسبة كل عيوبها إلى الغرب· ولا يعرف أحد كيف وصل إلى مثل هذه النتيجة؟ فنقد سعيد لعيوب واختلالات مجتمعات العالم الثالث بعامة، والمجتمعات العربية بخاصة، معروف ومكتوب ولم يكن مهادناً في نقده ذاك· أما نقده لشريعتي، وهنا يتحدث عن مثقف غير معروف لقرائه الأميركيين فيشعر بحرية أوسع في الكتابة بكذب حقيقي، وليس فقط من دون موضوعية· إذ كيف يمكن أن يصف علي شريعتي بأنه من المدافعين العميان عن عيوب المجتمع، وتعليقها كلها على المشجب الغربي وشريعتي معروف بنقمته الكبيرة على المجتمعات التي استعمرت (بضم الهمزة)· بل كان يرى أن سبب الاستعمار هو أصلاً في توفر ما سماه القابلية للاستحمار التي تفاقمت في تلك المجتمعات بسبب عيوبها الداخلية، وهي رديف مصطلح مالك بن نبي القابلية للاستعمار ذي المعنى نفسه· شريعتي نظر إلى الداخل وصوب سهام نقده له بلا هوادة، لكنه في الوقت ذاته كان لا يتساهل مع جريمة الاستعمار ذاتها· طاهري ومن على شاكلته ممن يضجرون ويتألمون من أي نقد يوجه للمشروع الغربي الاستعماري لا يروقه ذلك· هو يريد للضحية أن تسبح بحمد جلادها· يريد أن يكون غربياً أكثر من الغربيين أنفسهم الذين تتسع دوائر الضمير بين ظهرانيهم نقدا ذاتياً إنسانياً لكل مشاريع الهيمنة التي قامت وتقوم بها مؤسساتهم الحاكمة· وهو يمارس مازوشية بالغة عندما يتهكم على طروحات علي شريعتي