يشكل الهجوم الذي نفذته القوات الإسرائيلية على قرية عين الصاحب قرب دمشق في الخامس من أكتوبر 2003 تحولا كبيرا في الاستراتيجية الأميركية التي تبلورت بعد احتلال العراق تجاه النظام السوري· فلا تكمن أهمية ما حصل في تجرؤ إسرائيل على خرق اتفاقية فك الاشتباك التي وقعت عليها مع سوريا في عام ،1974 وليست هذه، بالمناسبة، أول مرة تقوم فيها إسرائيل باستفزاز عسكري أو ذي طبيعة عسكرية تجاه دمشق· ولكن المهم فيما حدث وما سيكون له نتائج كبيرة في المستقبل هو في نظري الترحيب الواضح الذي حظي به هذا الهجوم المنتهك للقانون الدولي من قبل العاصمة الأميركية· فقد فتحت تصريحات الرئيس جورج بوش الذي أعلن تأييده التام للعملية العسكرية الإسرائيلية وطالب سوريا، بالمناسبة، بتفكيك ما أسماه بنى الإرهاب على أراضيها، الباب أمام تل أبيب لممارسة سياسة تعرية استراتيجية مستمرة لسوريا تفقد النظام مصداقيته وتضعه أمام تحد استراتيجي وسياسي ليس لديه أي رد عليه· وما صدر عن المسؤولين الإسرائيليين من تصريحات عدوانية تالية، بما في ذلك التهديد بإسقاط النظام السوري، يؤكد أن واشنطن قد أطلقت يد إسرائيل في تحجيم دور سوريا باسم متابعة الارهابيين أينما كانوا وتدمير قواعد الإرهاب· وبصرف النظر عما إذا كان مثل هذا التحول يخدم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط أم لا يخدمها ويصب مباشرة في مصلحة إسرائيل، يعبر التوجه الأميركي الجديد، وما أعقبه من مساهمة أميركية كبيرة في إضعاف الموقف السوري في مجلس الأمن من خلال اعتراضها على مشروع القرار المطروح للحصول على إدانة للهجوم الإسرائيلي، عن نقلة كبيرة في سياسة الولايات المتحدة التي بدت حتى وقت قريب مترددة في تعاملها مع النظام السوري وميالة بشكل أكبر، بسبب انقسام الرأي فيها والمراهنة على التغير السلمي للنظام، إلى استخدام الوسائل السياسية والدبلوماسبة بدل اللجوء إلى الحلول العسكرية·
ويندرج في سياق السياسة الجديدة نفسها ما يبدو من موافقة الإدارة الأميركية، لأول مرة منذ طرحه في الكونغرس، على المصادقة على قانون معاقبة سوريا الذي أظهرت الإدارة في السنوات الماضية حرصها على تجنبه كي لا تثير دمشق وتضعف آمال واحتمالات التفاهم معها في ظرف هي بأشد الحاجة فيه إلى تعاون الدول العربية لضبط الوضع المتدهور في العراق· والسؤال هو: ما الذي حصل حتى غيرت واشنطن سياستها تجاه سوريا وتبنت في التعامل مع دمشق النظرية الإسرائيلية نفسها، أي مبدأ استخدام القوة؟ وما الذي تنتظره واشنطن من تبني مشروع قانون يضع سوريا في موقع الدولة المارقة ويضعف بالتالي فرصها في التوصل إلى تفاهم إقليمي يضمن لها استقرار الوضع في العراق والتقدم في الملف الفلسطيني الذي جعلت واشنطن من إغلاقه في العامين المقبلين ثمن قبول العرب بسيطرتها على المنطقة والإقامة العسكرية والسياسية الدائمة فيها؟ هل هو فراغ صبرها من الحكم السوري والشك في قدرتها على تطويع النظام في دمشق وإجباره على العمل وفق القواعد التي رسمتها، أو أرادت لها أن تضبط سلوك الأطراف العربية في المنطقة، بالطرق السلمية وإدراكها المفاجئ بأنه لم يعد أمامها لإقناع دمشق إلا التحول نحو الخيارات الأخرى التي كان كولن باول قد عبر عنها بعد زيارته لدمشق في الربيع الماضي عندما قال ما معناه: لقد أخبرنا السوريين بما نريده بالطرق الدبلوماسية ونحن ننتظر استجابتهم وإلا فلدينا خيارات أخرى؟ هل هو انتصار اللوبي المؤيد لاسرائيل أو المطبق لجدول أعمالها داخل هذه الإدارة في الوقت الذي كان من المفروض أن يضعف بسبب المأزق العميق الذي تجد الإدارة نفسها فيه في العراق وفي فلسطين معا؟ أم هو ما يسببه الموقف السوري بالفعل من عقبة أمام تطبيق الخطة الأميركية الشرق أوسطية ابتداء من العراق وانتهاء بفلسطين، وأن واشنطن مقتنعة بتقديم دمشق عونا كبيرا للمقاومة العراقية والفلسطينية؟ أم هو شعورها بأن النظام السوري الذي يواجه موجة قوية من المطالب الداخلية الاجتماعية والسياسية ويتعثر في سعيه للخروج من الأطر التقليدية وتحقيق برنامج الإصلاح قد أصبح ضعيفا بما فيه الكفاية حتى تأمل بانتزاع ما تريده منه؟ أم أن الإدارة الأميركية الجمهورية التي تواجه مصاعب حقيقية في العراق وتكاد تصل إلى طريق مسدود في الملف الفلسطيني تحتاج إلى اختلاق معارك جانبية للاحتفاظ بتعبئة الرأي العام الأميركي وراءها في حقبة الإعداد للانتخابات الرئاسية القادمة، وأن هذا السعي قد وافق سعيا مماثلا لدى حكومة ليكود للتغطية على إخفاقها في وقف العمليات الفدائية الفلسطينية وتأمينها لما كانت قد جعلت منه عنوان مشروعها للحكم، أعني ضمان أمن أكثر لاسرائيل والإسرائيليين؟
لا أعتقد بالفعل أن اللوبي الليكودي في البيت الأبيض كان في موقف يسمح له بالتفكير بمثل هذه النقلة الخطيرة في السياسة الأميركية الشرق أوسطية في الوقت الذي تزداد فيه الانتقادات الموجهة لسياسة كوندوليزا رايس ورامسفيلد في الولايات المتحدة نفسها· ولا يبدو لي أن من الممكن أن تقع و