هاهي كافة الحدود تتلاشى الآن، مادية كانت أم سياسية أم أخلاقية• فالمقاتلون الفلسطينيون يتخطون على نحو روتيني منتظم، الحدود التي تم ترسيمها قبل حرب ،1967 واستطاعوا أن يزيلوا أية حواجز محتملة بين الأهداف المدنية والعسكرية. أما إسرائيل فقد ثابرت بانتظام في تدميرها للسلطة الفلسطينية، وإرسال جنودها إلى داخل المناطق الحدودية التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية نظريا، إضافة إلى اتخاذها من التدابير والإجراءات ما يدفع بأعداد كبيرة من سكان تلك المناطق إلى حياة البؤس أو ما هو أسوأ منه• أما عمليات التصفية الجسدية المتعمدة فأصبحت جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية، وقد أعلنت إسرائيل على الملأ اعتزامها قتل الرئيس الأول والوحيد المنتخب ديمقراطيا في العالم العربي كله• وحتى الجدار العازل الذي يجري تشييده، يتجه إلى أن يكون أول خط حدودي من نوعه في التاريخ يمنع عملية الفصل بين دولتين• وبذلك يكون قد ذهب بأية احتمالات لقيام دولة فلسطينية مستقلة، مما يعني أيضا استحالة تحقيق حل سلمي يقوم على الإعلان عن وجود دولتين مستقلتين في تلك الأراضي•
وما من أي من هذه الحقائق يثير دهشة أو استغراب أحد• فمع انهيار مسار العلاقات الإسرائيلية-السورية، ومعه مسار الحل الإسرائيلي-الفلسطيني وباستبدال السعي الطبيعي المألوف من أجل السلام بحرب مطلقة وغير خاضعة للرقابة على الإرهاب، فقد بات اللاعبون الإقليميون فاقدين للبوصلة والدليل المرشد لخطاهم على الطريق، أكثر من أي وقت مضى منذ حرب 1967 . يذكر أن خطة الطريق التي رحب بها الجميع -دون أن يؤمن بها أحد في الواقع- كانت تفتقر إلى الوضوح والواقعية والنظرة الشمولية الإقليمية• أما إسرائيل فقد ذهب أي أمل لها في أن يتحقق أمنها الوطني على فهم جيرانها لها أدراج الرياح، وتبخر كل ما كانت تحلم به في الماضي على هذا الأساس• أما الفلسطينيون فقد تبخر أي أمل لهم في أن تكون لهم السيادة على ما يعتبرونه أرضا ووطنا لهم، بينما ذهب حلم سوريا في أن تسترد ما اقتطع من أراضيها يوما• وفي ظل هذه المعطيات فالكل يعمل ويتصرف وفقا لها، وفي ذلك ليس ثمة ما يسر•
ذاك هو الفراغ السياسي الذي لم يبق أي عامل كابح يمكن أن يفعل فعله فيه سوى قوة تهديد الجزاء والعقاب• فحركة حماس تبدي قلقا الآن من أن تتلاشى قيادتها تماما فيما لو تمادت ومضت شوطا أبعد فيما تنفذه من عمليات ضد الأهداف الإسرائيلية• أما عرفات فمن المؤكد أنه يفضل ألا يتعرض للقتل أو النفي، في حين تتخوف إسرائيل من أن يؤدي قتله أو نفيه إلى إثارة موجة غير مسبوقة من العمليات الإرهابية• ومما تخافه إسرائيل من تصعيد حربها على سوريا أن تلجأ الأخيرة إلى تأليب حليفها العسكري في لبنان -حزب الله- الذي تعلم إسرائيل أن في مقدور ترسانته من الأسلحة أن تصل إلى عمق أراضيها• وفي الوقت ذاته، تدرك سوريا أن في وسع إسرائيل أن تزيل من الوجود كلا من الجيش السوري وحكومته معا• من جانب آخر فإن إيران تتطلع لحيازة قوة نووية رادعة، غير أنها تخشى من أن تستفز الآخرين وتؤلبهم عليها• تبقى إذن توازنات الخوف وحدها سيدة الموقف والقاعدة الوحيدة التي تحكم بلا منازع، الشرق الأوسط كله• بهذا المعنى يتحول الخوف نفسه إلى قوة إقليمية رادعة، ولكنها لن تكون كذلك إلا إلى حين ومدى محدود وقصير•
إذن فإن حدود معطيات هذا الواقع تبدو واضحة جدا: فمع غياب كل من الوسيط الفاعل والقواعد التي تحتكم عليها اللعبة، فإن الشيء الأكثر خطورة من تجاهل مخاوف الذات، هو إظهار هذه المخاوف والتباهي بها للآخرين• وعليه فقد أصبح على كل من اللاعبين في المنطقة أن يظهر عزمه على السير نحو الهاوية، وإلا فسوف يطويه النسيان ولن يأبه به أحد• وبهذه الطريقة يمارس كل واحد منهم لعبته على السيناريو الذي رسمه هو لنفسه وعلى هواه، في الوقت الذي يبذل فيه قصارى جهده من أجل تصورالخطوط الحمراء التي وضعها له الآخرون• وفقا لهذه المعطيات فإن الكارثة لن تكون سوى واحدة من نتائج سوء التقديرات والحسابات الخاطئة• والسؤال الواجب إثارته هو: ما الاستجابة الدولية تجاه واقع محفوف بكل هذه الريبة والشكوك؟ من جانب إدارة بوش، ليس هناك سوى الصمت غير المسبوق الذي يتجسد أفضل ما يتجسد في تهديدها بالابتعاد عن خطة سلام لم تكن يوما طرفا أصيلا وحقيقيا فيها• فبدلا من إعطائها الطرفين المتنازعين أملا واقعيا لحل النزاع، عمدت الولايات المتحدة إلى ترك الأمر على ما هو عليه وعدم بذل أي جهد باتجاه تحسينه، عملا بمبدأ أنه سيبقى كما هو لأطول فترة ممكنة• وهكذا يبقى الطرفان يرددان سجع وأصداء يأسهما المتبادل• وبدلا من أن توفر الولايات المتحدة للطرفين بوصلة محددة تهدي خطاهما إلى الطريق الصحيح، كثيرا ما حثت واشنطن إسرائيل على التعامي عن العواقب الوخيمة التي ستفضي إليها عملياتها وأفعالها، في الوقت الذي لم تكف فيه عن تهديد كل من سوريا وإيران بما ستجرانه على نفسيهما فيما إذا واصلتا تماديهما وعنادهما• بذلك تكون واشنطن قد ساعدت الدولتين الأخيرت