في استجابة لها بعد يومين من وقوع عملية انتحارية نفذتها منظمة الجهاد الإسلامي الفلسطينية في أحد مطاعم مدينة حيفا، أسفرت عن مصرع تسعة عشر إسرائيليا، شنت إسرائيل من جانبها هجوما عسكريا ضد معسكر قيل إنه إرهابي يقع داخل الحدود السورية· وفي الإمكان النظر إلى هذا الهجوم على أنه قرار إسرائيلي متعمد يستهدف تصعيد المواجهة مع رعاة الإرهاب في المنطقة· أما الإسقاطات السياسية المباشرة لهذا الهجوم، فقد قللت من شأنها واشنطن، إثر إعلان الرئيس بوش أنه يؤيد حق إسرائيل في الرد على الأهداف الإرهابية التي تهدد أمن أراضيها· وفي الواقع فإن هذا التصريح ينسجم ومبدأ الضربات الاستباقية الذي يؤمن به بوش، وعمل على إرسائه في عدد من التصريحات والوثائق التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر ·2001 أما التجلي الأبرز لهذا المبدأ فقد بدا واضحا في الحرب التي شنتها واشنطن مؤخرا على العراق·
والآن فإن المخاوف تساور البعض من أن تكون إسرائيل قد حصلت على ضوء أخضر من الولايات المتحدة الأميركية، وأن تؤدي أية هجمات انتحارية لاحقة ضد إسرائيل إلى نشوب نزاع مسلح واسع النطاق في منطقة الشرق الأوسط، مع تزايد الهجمات على سوريا، بل وربما توجيه ضربات لإيران أيضا· غير أن هذه المخاوف مضخمة ولا أساس لها في الواقع على أية حال· ذلك أن أحد الأسباب التي دفعت شارون لكسر ثلاثين عاما من القيود التي تحده من توجيه ضربة عسكرية لسوريا هو ممارسة واشنطن لحق النقض الفيتو ضد خياره الآخر المتمثل في إبعاد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات· ومن الواضح أن شارون إنما هدف من خلال هذه الضربة إلى توجيه رسالة إلى سوريا، غير أن أياً من البلدين-سوريا وإسرائيل- لا يرغب في حدوث تصعيد عسكري حقيقي عبر حدودهما أو الحدود المشتركة مع لبنان· ومع صحة القول إن سوريا ستتكبد خسارة عسكرية فادحة فيما لو نشبت أية مواجهة مع إسرائيل، إلا أن هذه المواجهة ستكون مكلفة بقدر لا يستهان به بالنسبة لإسرائيل أيضا· وأول ما ستخسره إسرائيل علاقتها مع كل من الأردن ومصر، وهما الدولتان المجاورتان اللتان تربطها بهما اتفاقيات سلام· أضف إلى ذلك أن إسرائيل لن تحظى بتأييد يذكر في أوروبا، وربما لن تحظى بأي تأييد في منظمة الأمم المتحدة· وبعد كل هذا الخسائر هل ستكون إسرائيل أكثر أمنا بعد حدوث المزيد من المواجهات العسكرية مع دول الجوار؟ أما على الصعيد السوري فإن المواجهة العسكرية بالطبع ستكون لها عواقب أشد سلبية وتأثيرا فيما إن كانت خيارا لها· وأهم هذه الانعكاسات ستكون على نظام بشار الأسد،وما إذا كان سيكون قادرا على البقاء في ظل مواجهة عسكرية كهذه؟ هذا ما يبقى سؤالا تثيره الأحداث وحدها·
لكن وبالنظر إلى هشاشة العلاقات الإسرائيلية-السورية، فإن مبدأ الضربات الاحترازية بوصفه استراتيجية عسكرية قد شهد انتكاسات واضحة خلال الأسابيع القليلة الماضية بسبب ما جرى في العراق· ذلك أنه لم يثبت بعد أن النظام العراقي السابق وما أشيع عن حيازته لأسلحة الدمار الشامل، قد شكل تهديداً لأمن الولايات المتحدة الأميركية أو أمن أية دولة أخرى قبيل شن الحرب على العراق· وهذا هو الكابوس الذي يقض مضاجع إدارة الرئيس بوش حاليا· وليس هناك أمل في أن تعثر لجنة خبير الأسلحة ديفيد كاي على أسلحة الدمار المزعومة أو ما أطلق عليه حينها البندقية التي يتصاعد منها الدخان · هذا وقد أشارت كل البينات التي جمعت عن برامج أسلحة الدمار الشامل العراقية إلى أن هناك نوايا فعلية لتطويرها، إلا أن الموجود منها حقيقة حتى مارس ،2003 يكاد لا يذكر تماما بسبب قلته· ولما كان هذا هو المأزق الذي يواجهه مبدأ الضربات الاحترازية، فإنه من الممكن أن يلقي بتأثيراته على السياسات التي تنتهجها واشنطن إزاء كل من كوريا الشمالية وإيران، اللتين تبدي واشنطن قلقا كبيرا تجاه برامجهما النووية· أضف إلى ذلك أن هذا المبدأ كان سيكون له ما يبرره فيما لو كانت المعلومات الاستخباراتية دقيقة في تحديد مدى الخطر الأمني وتبرير مبدأ المبادرة بتوجيه الضربة الأولى للعدو· ولكن حقائق الحرب العراقية كشفت عن خلاف ذلك، وهذا ما سيدعو واشنطن للكف عن خوض أية مغامرات عسكرية جديدة، على الأقل ليس قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2004 التي لم يتحدد فيها بعد ما إذا كان الفوز بها سيكون من مصير الرئيس بوش·