ماذا يمكن للمهندس أن يقول في وداع الأديب؟
سؤال طرحته على نفسي عندما وصلني خبر وفاة إدوارد سعيد الذي عرفته أول ما عرفته من قراءتي لمؤلفه الاستشراق ، وكنت ما أزال في أول تعليمي الجامعي· والحق أنني لم أكن آنذاك على دراية بالسياق الثقافي الغربي الذي نشأ فيه هذا المؤلَّف الفصل· ثم تشاء مقادير السيرة أن أنتقل إلى أميركا لأتابع تحصيلي المهني، ومعه تحصيلي الثقافي، ولأصبح أكثر دراية بدور إدوارد سعيد المحوري في الثقافة الغربية المعاصرة، لا بل بجذرية حضوره الأدبي والثقافي والإنساني في الفكر الغربي المعاصر·
وقد لا أجد شاهداً على هذه الجذرية في الحضور خيراً من قول رئيس جامعة كولومبيا، حيث كان إداورد سعيد أستاذاً عَلَماً، مرموقاً ومحبوباً، إن كتُب الأستاذ سعيد ومحاضراته غيرت إحساسنا، نحن أهل الغرب، بأنفسنا لأنها أرغمتنا على أن نواجه ما سلمنا به ضمناً من افتراضات حول غيرنا من شعوب هذا الكوكب ·
ولا شكّ عندي أن هذا المشرِقِيّ المقدِسيّ ما كان لينجح في إرغام مثقفي الغرب على هذه المواجهة مع الذات لو لم يكن في فكرِه الإنساني الرحماني ضوء غربي من نهضة عصر الأنوار -تلك التي جعلت من الحرية والعدالة والمساواة قيماً كونية مؤسسة لمعنى البشرية، لا حكراً موقوفاً على دينٍ دون دين أو عرقٍ دون عِرق·
كما أن هذا المشرقيّ المقدِسيّ ما كان لينجح في مسعاه في فضحِ ظلم الاستشراق لو لم يكن في سيرته العامة وثقافته الشخصية بعض من مثقفِ عصر الأنوار - ذلك الذي كان حفياً بكل إبداع إنساني من ثقافة أو صناعة أو فن، ينظر في شؤون الاجتماع البشري على هديٍ من نور العدل، وفي شؤون الإنسان الفرد على هديٍ من نورِ الحرية، لا فرق في ذلك بين مجتمع ومجتمع أو بين إنسانٍ وإنسان·
فكر إدوارد سعيد كان للغرب ضوءاً وإلى الضوء مرآة· قبل كتاب الاستشراق لم يكن لساسة الغرب إلا مرآة مشروعهم الخاص ينظرون فيها فيرون خريطة العالم وخِطة السيطرة عليه لحسابهم الخاص· بعد الاستشراق صارت للغرب مرآة إداورد سعيد ينظر فيها الغرب فيرى الآخر الشرقي مطروداً من رحمة القدرة بل منفياً من معنى الإنسان·
ولأنّ إدوارد سعيد أراد إعادة معنى الإنسان، معنى الحرية والعدالة والمساواة، لكل إنسان، أصرّ حتى آخر نبض في عروقه على إعادة معنى فلسطين لكل فلسطيني·فَرادةُ إدوارد سعيد هي في أنه ما انفكّ يبحث ويجِدُ فلسطينيته في إنسانيته، بينما الكثيرون سِواه يُضحّون بإنسانيتهم باسم فلسطين أو محواً لفلسطين·
لم أجب بعدُ على سؤالي: ماذا يمكن للمهندس أن يقول في وداع الأديب؟ أو بصيغة أخرى: ماذا يمكن للمثقف التقني أن يقول في وداع المثقف الأدبي؟ ·
يؤسِفني أن أصرّح أن الثقافة الغربية المعاصِرة لم تترك بين المهندس والأديب من مجال مشتركٍ إلا الشك المتبادل· فهذه الثقافة انفصامية في استغرابِها أي في فصلِها بين الوسيلة والغاية كما هي انفصامية في استشراقها أي في فصلِها بين الغرب المُتحضر والشرق المتحجّر · وقد يكون من مفارقات الوجه التقني لهذه الثقافة ألا أجد، أنا المهندس، شيئاً أودع به إدوارد سعيد خيراً من أن أدعو المثقف التقني، صانع أدوات الحضارة ووسائلها، إلى عين الدور الاجتماعي الذي حدده إدوارد سعيد للمثقف الإنساني في مقالة كتبها قبل وفاته بأسبوعين، يقول فيها كلمات تكاد تكون وصفاً ذاتياً لالتزامه السياسي والاجتماعي والثقافي، يقول إدوارد:
دور المثقف أن يقول الحق مهما كان للقوة، مهما كانت، أن يكون شاهداً للبشرية في قهرها وضرائها، أن يتحدى الصمت المسنون عليها ويدحره، وأن يضج بالسكينة العامة التي يصطنعُها طغيان مستتِر، متى وأينما استطاع المثقف إلى ذلك سبيلاً .
د. إبراهيم الفاضل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عضو الهيئة الباحثة في مختبرات اي·بي إم وعضو الهيئة التدريسية في جامعة كولومبيا - نيويورك