اتضح في الآونة الأخيرة أن قضية حرية الفرد وديمقراطية الحكم هي القضية المحورية الآن التي تناضل من أجلها الشعوب· وربما كان سبب عديد من أحزان العرب هو أنهم يعانون جميعا من أزمة الحرية والديمقراطية في حياتهم الاجتماعية والسياسية· بل لقد احتل العراق ومن قبله أفغانستان بذريعة القضاء على مجتمعات القهر والتخلف والإرهاب وحكم الفرد الواحد أو الجماعة أو الطائفة أو العشيرة·
لقد كانت حرية الفرد وديمقراطية الحكم أحد مطالب المعارضة السياسية الوطنية منذ إنشاء الدول الوطنية· وأصبحت هي أيضا في مأزق· فإذا استمرت في النضال من أجل هذا الهدف قد تتهم بأنها تعمل في إطار البرنامج الأميركي لتحديث أنظمة الحكم في الوطن العربي والعالم الإسلامي· فتوقف النضال في الداخل مؤقتا بعد أن اختلطت الأوراق· وأصبح البند الأول في برامج المعارضة طرد المحتل الأجنبي من العراق وأفغانستان وفلسطين، وتم تأجيل قضية الحرية والديمقراطية من جديد إلى ما بعد الاستقلال كما كان الحال في الخمسينيات والستينيات·
لقد تم تأجيلها مرتين· الأولى في مرحلة مقاومة الاستعمار· فقد أجل المواطن العربي قضيته مع النظام في الداخل حتى يجند نفسه لمقاومة الاستعمار في الخارج· لذلك وضع الأفغاني شعار الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل ، معطيا الأولوية للخارج على الداخل، وطبقا للمثل الشعبي أنا واخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب · فالمعركة الكبري كانت مع الاحتلال من أجل نيل الاستقلال· وهو الشعار نفسه الذي رفعه عبد الناصر: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ·
ويتكرر الأمر بعدة صيغ مثل: الأولوية للتناقض الرئيسي على التناقض الثانوي· وقد خرج الشيوعيون والإخوان أثناء العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر 1956 من السجون وسلّحهم عبد الناصر دفاعا عن بورسعيد· وبعد انسحاب العدوان في ديسمبر دخلوا السجون ثانية· تكاتف الحكم والمعارضة لدرء العدوان· فالتناقض بين الوطن والعدوان تناقض رئيسي في حين أن التناقض بين عبد الناصر من ناحية والإخوان والشيوعيين من ناحية أخرى تناقض ثانوي· وبعد أن قام عبد الناصر بعمليات التحول الاشتراكي في قوانين يوليو الاشتراكية 1962-1963 انضم إليه الشيوعيون· وظل الإخوان داخل السجون· ثم تم إخراجهم منها في 1971 لتصفية الناصرية· أعطيت الحرية أولا لليسار في الستينيات ضد اليمين، ثم في السبعينيات لليمين ضد اليسار· وأجلت قضية الحرية لجميع المواطنين بكافة مدارسهم الفكرية وتياراتهم السياسية حتى الآن· وكانت هزيمة يونيو - حزيران 1967 نتيجة لانتقاص الحرية العامة وشمولية الحكم في الجمهورية الأولى· وكانت زيارة القدس في نوفمبر 1977 واتفاقيات كامب ديفيد في 1978 واتفاقيات السلام في 1979 نتيجة لانتقاص الحريات والصلح المنفرد ودون طرح موضوع الحرب والسلام للنقاش على الصعيد الوطني في الجمهورية الثانية وتوقفت مصر عن الحركة، وأصيبت بالشلل التام· وازدادت تبعية للخارج، وقهرا للداخل· وعزّ الخيال السياسي، فتوقفت عن الحركة أو تحركت في المكان محلك سر خشية من المغامرة، وعقدة يونيو -حزيران 1967 التي لم يحلها انتصار أكتوبر ·1973 وانفرط عقد العرب بعد حرب الخليج الأولي في 1980 وحرب الخليج الثانية في ·1990 وتركت الانتفاضة الأولى انتفاضة الحجارة بمفردها في ،1987 والثانية أيضا، انتفاضة الأقصى في 2000 بمفردها· وسقط العراق تحت أقدام جنود الاحتلال في مارس ·2003 كل ذلك تحت شعار حرب أكتوبر آخر الحروب وذلك أثناء الجمهورية الثالثة·
بعد التخلص من الاحتلال بدأت قضية بناء الدولة الوطنية المستقلة التي تمت وراثتها من الاستعمار بكل مخلفاته· وبطبيعة الحال تم تسليم رئاستها لقادة التحرر الوطني الذين انشغلوا بالإنجازات السريعة والعاجلة مثل: الإصلاح الزراعي لتحرير الفلاح والأرض من الإقطاع، والتصنيع لمضاعفة الدخل القومي، والتأميم من أجل استرداد رأس المال الوطني من الشركات الأجنبية، وتكوين ركيزة القطاع العام لتوفير الحاجات الأساسية للمواطنين، ودعم المواد الغذائية خاصة الخبز لغير القادرين، وإقرار مجانية التعليم، وتسليح الجيش الوطني، وتكوين جبهة عريضة معادية للاستعمار في عصر الاستقطاب باسم القومية العربية أو دول العالم الثالث أو عدم الانحياز أو تضامن شعوب آسيا وأفريقيا· وبعد عقدين أو ثلاثة من الزمان فشلت عمليات التحديث، واغتنت الطبقة المتوسطة· وتضخمت الرأسمالية الوطنية· وبعد الانفتاح الاقتصادي، وخصخصة القطاع العام، ازداد الأغنياء غنى، والفقراء فقرا· وتم تهريب ما يعادل الدخل القومي إلى الخارج من نواب القروض· وانتشر الفساد، وعمت الرشوة· وازدادت الدولة تبعية للخارج في الغذاء والسلاح، وتفاقمت الديون العسكرية والمدنية· وأصبح العامل الخارجي له الأولوية على العامل الداخلي في صياغة السياسة الوطنية· ولم يعد ولاء المواطن للدولة لا في إعلامها ولا تعليمها ولا خدماتها ولا أجورها بل أصبح الولاء للخارج، للقنوات الفضائية في الأخبار ، وللتعليم الخاص