نشرت مجلة نيوزويك الأميركية في عددها الأخير مقالاً على درجة كبيرة من الخطورة. يصف المقال الأيام التي تمرّ بها مدينة بيت لحم بأنها أيام سوداء· ليس بسبب الاحتلال الإسرائيلي ولا بسبب العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الإسرائيلية ضد الأهالي الفلسطينيين، ولكن بسبب ما وصفته المجلة الأميركية بالمضايقات التي يتعرض لها المسيحيون على أيدي المسلمين.
من مظاهر هذه المضايقات التي أوردها كاتب المقال جوشوا هام (وهو صحفي يهودي صهيوني) أن المسلمين قرروا تغيير اسم ساحة كنيسة المهد واطلاق اسم الخليفة عمر بن الخطاب عليها· وعلى رغم أن الكاتب ينقل عن رئيس بلدية المدينة حنا ناصر نفيه لهذه الإشاعة جملة وتفصيلاً إلا أنه يصرّ على صحتها استناداً إلى مصادره الخاصة!
ومن مظاهر المضايقات أيضاً التي وردت في المقال أن رجال الانتفاضة الفلسطينية دخلوا عدداً من البلدات المسيحية في الضفة الغربية مثل بيت جالا القريبة من المستعمرة اليهودية جيلو واتخذوا منها موقعاً لإطلاق النار على سكان المستعمرة· وأنه نتيجة لذلك تردّ القوات الإسرائيلية على النار فتصيب بيوت المسيحيين !·
ومن الواضح أن الهدف من وراء هذه القصة الايحاء بأن المسيحيين الفلسطينيين ليسوا جزءاً من الانتفاضة، وليسوا شركاء لاخوانهم المسلمين في التصدي للاحتلال الإسرائيلي· وأنهم ينسحقون بين الانتفاضة الفلسطينية وردود الفعل الإسرائيلية!
ويذهب مقال النيوزويك إلى أبعد من ذلك وأخطر، فيزعم أن الفلسطينيين المسيحيين يطالبون إسرائيل بإعادة رسم خريطة الجدار الفاصل بحيث يشمل بيت لحم ضمن إسرائيل ليتخلصوا من سيطرة المسلمين الفلسطينيين على المدينة·
ومن الواضح هنا أيضاً أن الهدف من وراء ذلك الايحاء بأن المسيحيين يعانون من المسلمين مرّ العذاب وأنه لا يمكن التخلص من هذه المعاناة إلا بأن ينسلخوا عن مواطنيهم الفلسطينيين وينضموا إلى الكيان الإسرائيلي المحتل! مع ذلك نسجل لكاتب المقالة ثلاثة أمور صحيحة:
الأمر الأول هو أن عدد المسيحيين في الاراضي الفلسطينية المحتلة انخفض من 110 آلاف في عام 1948 إلى 50 ألفاً اليوم·
الأمر الثاني هو أن إسرائيل صادرت من ضمن ما صادرته من الأراضي العربية في الضفة الغربية مساحة 11 ألف هكتار من حقول الزيتون في بيت جالا يملكها فلسطينيون مسيحيون وأقامت عليها مستعمرة جيلو ، ثم صادرت مساحات أخرى لإقامة طريق عريض يربط هذه المستعمرة بالقدس المحتلة·
أما الأمر الثالث فهو اقراره بأن الفلسطينيين المسيحيين يعانون من البطالة المتفشية ومن مذلة الاحتلال ومن مصادرة الأراضي·
غير أننا نسجل على الكاتب إصراره المتكرر على الزعم باطلاً بأن هجرة المسيحيين من فلسطين المحتلة لا علاقة مباشرة لها بهذه الاجراءات العدوانية، فهو يعزوها إلى ما يسميه صعود الأصولية الإسلامية· ويذكر أن 12 ألف مسيحي هاجروا منذ بدء الانتفاضة في سبتمبر ،2000 وكأن الانتفاضة موجهة ضد المسيحيين وليس ضد المحتلين الاسرائيليين· ويذكر الكاتب أن ثمة شعوراً لدى المسيحيين الفلسطينيين بأنه لا مستقبل لهم بعد الآن في فلسطين، وأنهم يتطلعون إلى الهجرة لانهم يواجهون -كما نسب إلى أبو عبّارة قوله- خياراً من اثنين إما حكومة فلسطينية علمانية فاسدة أو دولة إسلامية·
أما أبو عبّارة الذي نسب إليه هذين الخيارين فهو مناضل مسيحي-فلسطيني كان معتقلاً في سجن في صحراء النقب وأطلق سراحه في العام الماضي ·
كذلك ينسب الكاتب إلى الأب بطرس مادروس -من الكنيسة اللاتينية- قوله إن المسلمين يعملون على تغيير هوية بيت لحم، علماً بأن رأس هذه الكنيسة البطريرك ميشال صباح هو من حماة الانتفاضة ومن الوطنيين الذين احتضنوا رجالات منها في حرم كنيسة المهد بالاتفاق مع الفاتيكان، الأمر الذي يرسم اكثر من علامة استفهام حول صحة الكلام المنسوب إلى أحد آباء هذه الكنيسة في مقال الصحفي اليهودي الإسرائيلي!·
يبقى أن المهم في هذا المقال هو أنه يكشف عن نوايا إسرائيل في: أولاً، ضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية داخل الارض المحتلة، وثانياً ضرب التفاهم الإسلامي-المسيحي العربي وبالتالي الدولي، وثالثاً محاولة إغلاق دائرة الحصار على الإسلام والمسلمين في العالم من خلال تركيب صور عدائية بين المسلمين والمسيحيين وترويجها في أجهزة الاعلام، على غرار ما فعلت نيوزويك في عددها الصادر ( 29 أيلول 2003)·
طبعاً لا يكفي الرد على ما نشرته المجلة بالقول فقط إنه كذب وافتراء· إنه كذب وافتراء بالفعل، ولكنه في الوقت نفسه جرس يرن عالياً في الساحة الوطنية الفلسطينية وفي الساحات العربية المختلفة· إن جراح مشروع مسجد الناصرة في باحة كنيسة سيدة البشارة لم تندمل بعد· ومن الخطأ، بل إنه لجريمة وطنية كبيرة، فتح جراح جديدة تعرقل الانتفاضة، وتمنح إسرائيل مادة اضافية للتشهير والتضليل وبث الفتن ·
قد يكون في بعض ما ذكرته مجلة نيوزويك بعض الصحة· فإذا كان الأمر كذلك فإن من واجب المعنيين في الساحة الفلسطينية معالجة الوضع بأسرع ما يمكن لتجريد إسرائيل