يقدم الاجتماع الذي جرى في كامب ديفيد بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي جورج بوش برهاناً على تنامي قوة العلاقات الروسية ــ الأميركية، التي نجت من الخلافات حول العراق، بل وتجاوزتها أيضاً إلى أبعاد جديدة. وحتى إذا لم يكن الرئيسان على اتفاق في كل المسائل، غير أنهما قاما بتطوير تفاهم مشترك ملحوظ فيما بينهما، إذ أنهما يعتقدان بوجود تشابه كبير جداً بين المصالح الروسية والأميركية الأساسية في كثير من المجالات· وتتمثل المهمة الآن في التحرك إلى أبعد من هذا التفاهم الذي يتمتع بأهمية جوهرية، والرئيسان منخرطان في ذلك الآن- حيث إنهما يتمتعان بالقدرة على مناقشة المسائل الصعبة، ليس على نحو صريح فحسب، بل على نحو بنّاء أيضاً، باعتبار أنهما زعيمان لبلدين توفرت أمامهما كل الأسباب التي تدفع كلا منهما إلى تمني الخير للبلد الآخر·
من سوء الحظ أن هذا الموقف البنّاء ليس عاماً وشاملاً في روسيا أو الولايات المتحدة، ذلك أننا لا نجد استعداداً لدى الجميع في بلدينا لقبول الواقع الجديد، وما يزال هناك الكثيرون مقيدين أو استحوذت عليهم التجارب السلبية الماضية· وتبقى الآراء المقولبة القديمة عقبة أمام بلوغ إمكانياتنا الكاملة في الصراع المشترك ضد الإرهاب وانتشار أسلحة التدمير الشامل، وكذلك في سياق سعينا إلى معالجة التحديات الأخرى· وفي بلدي روسيا، ما زال هناك، على سبيل المثال، بعض الذين يفترضون أن المكاسب الأميركية تتحقق دوماً على حساب روسيا، لكن هذه ليست نظرة الرئيس بوتين أو الحكومة الروسية؛ بل إن الأمر على العكس من ذلك، إذ أننا قمنا بتأييد الولايات المتحدة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر لأننا كنا نعلم، وربما كنا نعلم أكثر من غيرنا، مدى أهمية كسب الحرب على الإرهاب·
وكما قال الرئيس بوتين في كلمته التي ألقاها في جامعة كولومبيا، أو في سياق المحادثات التي جرت في كامب ديفيد، ما زالت الآراء القديمة حول روسيا موجودة في الولايات المتحدة· وما زالت رؤية الأميركيين للتطورات الحاصلة في روسيا اليوم ملونة بالسياسات والممارسات السوفييتية، التي تركت إرثاً ملموساً في القانون الأميركي وفي السياسة الأميركية·
وقد يبدو أحد الأمثلة على هذه المواقف شيئاً ثانوياً، غير أنه في رأيي مثال مرعب، وهو يتعلق بإلزام متواصل للمواطنين الروس، الذين يعملون لدى الأمم المتحدة، بتقديم إشعار مسبق إلى السلطات الأميركية عندما يسافرون خارج دائرة قطرها 21 ميلاً مركزها مقر الأمم المتحدة· ما سبب اختيار الموظفين الروس بالذات لتطبيق هذا الإجراء، في حين يجري إعفاء مواطني دول الاتحاد السوفييتي السابق ودول آسيا الوسطى من هذه القاعدة؟ هذه هي آلية عمل عقلية الحرب الباردة·
يمثل تعديل جاكسون-فانيك (في القانون الأميركي) الذي تم طرحه في عام ،1974 قضية أكثر عمقاً وشهرة، حيث جرى طرح هذا القانون في الأصل لتسهيل الهجرة اليهودية الحرة من الاتحاد السوفييتي؛ واليوم لا يختلف اثنان على أن الهجرة الحرة باتت واقعاً في روسيا· وفي الحقيقة أن الروس الساعين إلى السفر إلى أميركا لا يواجهون مشكلة في مغادرة بلادهم، بل في دخول الولايات المتحدة· غير أن تعديل جاكسون-فانيك ما يزال موجــــــوداً في مدونات القانون الأميركي·
ودعوني هنا أشرح الأمر بفظاظة: فالتعديل لم يلحق أضراراً كبيرة بالمصالح التجارية الروسية، غير أنه يضر بمصلحة روسيا في وجود علاقات أفضل مع الولايات المتحدة لأن ذلك يساهم في تشكيل موقف في روسيا يعتبر أن البعض في الولايات المتحدة، بما في ذلك بعض أعضاء الكونغرس، مصممون كل التصميم على تطبيق المعايير القديمة ذاتها وعلى الاحتفاظ بأكبر عدد ممكن من العصي -حتى وإن كانت رمزية- في سياق التعامل مع بلدي روسيا·
وعلى رغم ذلك هناك مثال آخر يجسده برنامج نان-لوغار ، وهو البرنامج الذي يهدف إلى تقليص التهديد الذي يشكله انتشار الأسلحة النووية· فما سبب تقديم الأموال بموجب هذا البرنامج بمظهر الجائزة التي يمكن-أو لا يمكن- منحها إلينا؟ من الواضح أن البرنامج يجلب المنافع والأرباح، ليس فقط إلى روسيا، بل أيضاً إلى الولايات المتحدة وبقية دول العالم من خلال تحجيم التهديد النووي· وعلى رغم ذلك، نجد أن فكرة التقليص المتبادل للتهديد النووي-وهي فكرة ذكية لامعة- أصبحت في نظر البعض أداة لعقابنا على سوء السلوك ·
إن للآراء المقولبة تأثيرها في إدراك الأميركيين لمشكلة الشيشان المعقدة والمؤلمة، ولا أحد يتفوق على الروس في حسن فهم الورطة الصعبة التي نواجهها في الشيشان· ونحن لا نطلب هنا أية مساعدة معينة، لكننا نعتقد أنه ينبغي، كحد أدنى،على الآخرين الذين يعانون من الإرهاب، ألاّ يستغلوا الأوضاع في الشيشان في سبيل الدعاية التقليدية؛ إذ أن ذلك لا يعبر عن موقف ودّي، لا سيما بعد الانتخابات الناجحة في الشيشان وفي حين تتقدم العملية السياسية هناك إلى الأمام·
إن روسيا لا تحاول إحراز نقاط في ميدان العلاقات العامة اعتماداً على الخسائر المأساوية التي تحصد أرواح الأبري