بقْدر ما يتحصّن المثقفون العرب برجاحة العقل عند مناقشة قضية العداء العربي لسياسات الولايات المتحدة، ويستبعدون أية نظرية عدائية حتى ولو كانت المؤامرة أو تابو رفض الآخر، فإن ما يصدر عن الحكومة الأميركية من أقوال وأُفعال يهدد تلك الرجاحة ويصيبها في مقتل!
في السابق لم يكن العرب قادرين على متابعة الاعلام الأميركي بصورة علمية ودقيقة لاعتبارات سياسية وتكنولوجية، أما اليوم فلقد أتاحت الشفافية، وسلاح حدية التعبير الذي دأبت الحكومات الأميركية على استخدامه لـ تحريض الشعوب على واقعها، نوعاً من الالتفات نحو الآلة الإعلامية الأميركية وما يصدر منها· بل وتطّور الأمر إلى انتقاد سياسات الولايات المتحدة الإعلامية علنا، كما حدث يوم الخميس الماضي عندما وجه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل نقداً لاذعاً للإعلام الأميركي، واتهمه بعدم نقل الحقيقة ·
ونحن إذ نُتهم أحياناً بممالأة الولايات المتحدة· خصوصاً نحن الطلبة الذين درسنا هناك· وينال اعجابنا بالحضارة الأميركية نقداً كبيراً من قبل بعض المثقفين العرب الذين لم يدرسوا هناك، ولم يطلعّوا على الانماط الحضارية الأميركية، فإنه على المدى الطويل نحتاج الى دراسة هذا الاتهام، لنكتشف أن العديد من ملامح تلك الحضارة يحتاج الى إعادة نظر أو اتزان، خصوصاً في سياسات الولايات المتحدة الخارجية وإعلامها على وجه الخصوص·
لقد حصل نوع من الاستئناس والحميمية بين بعض العرب والولايات المتحدة بعد تحريرها الكويت، وحصل الشيء ذاته بعد تبديل النظام في العراق، واعتقد كثيرون- ومنهم أنا- أن الولايات المتحدة عازمة جداً على تحقيق خريطة الطريق وما تحرير او احتلال العراق إلاّ الخطوة الاولى لاحقاق الحق الفلسطيني واغلاق ملف الصراع العربي الاسرائيلي، ولكن مع مرور الوقت، وازدياد العنف الاسرائيلي المنظّم ضد الفلسطينين لاحظنا ان الولايات المتحدة تغضّ الطرف عن ممارسات لا إنسانية ولا حضارية على الأرض الفلسطينية، وهذا ما يجعل الاستئناس-الحميمية التي غلبت عواطف ومشاعر بعض العرب تجاه الولايات المتحدة على محك خطير، لا استبعد أن ينقلب إلى حالة من العداء· إذا ما فقدت الولايات المتحدة أكثر أصدقائها المتنورين، فإن حملات التشكيك والنوايا غير الحسنة سوف تتوفر على الأرض العربية ضد كل ما هو أميركي، وبالطبع سينال ذلك من علاقات الولايات المتحدة مع الدول الصديقة جداً لها·
لقد تململ الشعب العراقي من وعود الولايات المتحدة، تماماً كما ساور الخوف العديد من أسر الجنود الأميركيين المتواجدين في العراق، وخوفهم من عودة احبابهم داخل الاكفان نظراً لازدياد العمليات الانتقامية ضد الأميركان· كما ان العداء يزداد داخل بلدان صديقة جداً للولايات المتحدة منها عربية ومنها اسلامية، في الوقت الذي تسعى الآلة الإعلامية الأميركية إلى تحسين صورة أميركا عبر المحطات الاذاعية والتلفزيونية الموجهة نحو الأراضي العربية· (محطة سوا، ومجلة هاي ومحطة التلفزيون المرتقبة التي ستخصصها لدعم قيم الحضارة الأميركية)·
إن التناقض بين الفعل على الأرض وبين القول عبر الآلة الإعلامية سوف يزيد من الحدة بين الطرفين - العربي والأميركي- خصوصاً بعد اهتزاز مصداقية الولايات المتحدة في العراق، وربط الإعلام الأميركي صورة الإنسان المسلم بالارهابي، وهذا أدى إلى تصدع في علاقات الولايات المتحدة مع دول صديقة لها في المنطقة العربية·
وبقدر ما يدافع زملاؤنا الأميركيون- ومنهم فريدمان- عن الدور الحضاري للولايات المتحدة في العالم، وبقدر ما نتحمس نحن الذين ينعتوننا بـ(المتأمركين) وهو ظلم كبير لنا، للوعود الأميركية برفع الظلم عن العالم، واشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وغيرها من الرماديات البرّاقة في عالم السياسة، فإننا نصاب بخيبة أمل عندما نُواجه بالوجه الأميركي في الحلبة الفلسطينية الإسرائيلية، وكيف ان الانحياز يتفوّق على الحياد، والعاطفة تغتال الحكمة، ويتلاشى بذلك مفهوم الحوار والحقوق والنيات الحسنة لعالم آخر بدون أحقاد أو حروب·
ان العداء للولايات المتحدة يزداد، وصورة الولايات المتحدة في العالم العربي والاسلامي تتراجع، وهذا ليس حديث عاطفة، بل نتيجة تقدير أميركي مستقل بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث يربط تلك الصورة المتراجعة مع الانتفاضة الفلسطينية· ولاشك ان الانتفاضة لم تكن نبتاً غير طبيعي، بل إنها رد فعل يسير ضد القوة والبطش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين·
من المتوقع أن يزداد تصدّع علاقات الولايات المتحدة مع عدد من دول المنطقة في القريب العاجل· وقد تجد الولايات المتحدة نفسها مجبرة -بحكم استراتيجيتها الحميمة مع إسرائيل- إلى غزو بلد إسلامي هنا أو هناك· وهذا سيزيد من حالة العداء، خصوصاً مع تلاشي الوعود البراقة للشعوب بمزيد من الحرية والعدالة وحقوق الإنسان· وقد تطالب الشعوب حكوماتها بضبط العلاقة مع الولايات المتحدة، وهذا ما سيُحرج الحكومات، ويربك توازنات كثيرة ارتكزت عليها تلك الحكومات!