هل يمثل السعي إلى الديمقراطية في الوطن العربي على تعدد أنظمته السياسية بحثا ممكنا عن وضع ديمقراطي يمكن أن يتحقق، وتحول سياسي قابل للتشكل على أرض الواقع أم أنه ضرب من ضروب المستحيل؟
سؤال مشروع في ضوء تعدد المطالبات بالديمقراطية في عدد من البلاد العربية، وامتناع السلطة الحاكمة في الوقت نفسه عن اتخاذ الخطوات الضرورية لتأسيس الديمقراطية الحقيقية. وإذا كان هذا صحيحا فهل يمثل العالم العربي ــ في مجال التطور الديمقراطي الملحوظ في عديد من البلاد النامية ــ استثناء واضحا؟ وما الذي أدى إلى بروز هذا الاستثناء الذي يكشف عن مقاومة الأنظمة السياسية العربية على تعددها للديمقراطية؟ وهل أسبابه كامنة في طبيعة الثقافة العربية الزاخرة بإرث الاستبداد الطويل، أم يرد إلى طبيعة الأنظمة السياسية العربية الراهنة التي تقاوم التطور، مما حدا بدولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية إلى أن تنشئ مشروعا للشراكة الديمقراطية تقرر فيه فرض الديمقراطية بالقوة من خلال الضغط السياسي على الأنظمة وتغيير نظم التعليم وتجديد الخطاب الديني وفرض القيم السياسية الديمقراطية من خلال توسيع دائرة المشاركة السياسية؟
تعددت الأسئلة وإن كانت تبرز من بين تضاعيفها ثلاث مشكلات رئيسية· المشكلة الأولى تتعلق بطبيعة الثقافة العربية، والمشكلة الثانية لصيقة بنوعية النظم السياسية العربية، والمشكلة الثالثة برزت مؤخرا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهي إمكانية فرض الديمقراطية من الخارج من خلال تدخلات مدروسة لقوة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية·
ولا ننكر أن تحليل طبيعة الثقافة العربية مسألة بالغة الصعوبة وتحيط بها تحديات منهجية ونظرية متعددة· ذلك أنه ينبغي أولا أن نبحث عن المنهج العلمي الملائم الذي يسمح لنا بشكل موضوعي ومتكامل ونقدي تحليل الاتجاهات المختلفة التي سادتها، بالإضافة إلى صعوبة الغوص إلى جذور تاريخية بعيدة، وتعقب مراحل متعددة· فمكان ذلك دراسات أكاديمية متخصصة·
ومع كل ذلك يمكن المجازفة ببعض التعميمات الجارفة التي قد تكون محل نقد مشروع بناء على التمحيص التاريخي، والقول إن الدولة الإسلامية بعد نهاية عصر الخلافة الراشدة التي مورست فيها الشورى إلى حد كبير، دخلت مع عصر الخلافة الأموية في إطار استبداد سياسي طال أمده، وإن تغيرت صوره وأنماطه بحكم تعاقب الأسر الحاكمة والانقلابات الدموية السياسية التي شهدتها الدولة الإسلامية، إلا أن طبيعته ظلت واحدة، والتي تتمثل في احتكار الحكم بواسطة أسرة حاكمة أو فلنقل عن طريق قبيلة محددة، والاستئثار باتخاذ القرار من ناحية، والهيمنة على مصادر الثروة من ناحية أخرى، وقد ترتب على هذا الوضع تغييب طويل لجماهير الشعب ووضعها من التعبير المشروع عن مصالحها السياسية التي تتمثل في ضرورة المشاركة بالرأي في شؤون البلاد ومصالحها الطبقية بمعنى حقها المشروع في الثروة من خلال سياسات توزيعية عادلة·
ولا يمنع ذلك أن الجماهير في الأقطار الإسلامية المتعددة ثارت مرات عديدة بقيادة حركات سياسية احتجاجية، بل إن ثورات عنيفة قامت احتجاجا على الأوضاع الظالمة التي فرضها الحكام المسلمون، غير أن السلطة السياسية المستبدة كانت قادرة دائما على قهر هذه الحركات، وإخماد هذه الثورات·
هذا في الواقع تاريخ طويل لسنا مؤهلين لكي نخوض فيه بالتفصيل، وإن كانت لدينا مراجع عربية أصيلة تحكي تطوراته المختلفة بقدر كبير من الدقة العلمية، فضلا عن مراجع عديدة أنتجها المستشرقون الغربيون الذين عنوا لأسباب شتى بتقصي تطورات التاريخ الإسلامي·
لكل ذلك لن نقف طويلا عند أصول الاستبداد الكامنة في صميم الثقافة العربية الإسلامية، وإن كان يفيدنا أن نتأمل الأوضاع في الدول العربية بعد أن نالت استقلالها في الخمسينيات، لكي نحلل منطلقات الثقافة السياسية التي سادت واتجاهاتها والتي حددت نوعية الممارسات الفعلية التي تمت·
ولا يمكننا أن نمارس هذا التحليل بغير اللجوء إلى تنميط النظم السياسية العربية· ذلك أن كل نمط فرض نوعا من أنواع الثقافة السياسية بما يحقق مصالح النخب الحاكمة· هناك أولا أنظمة سياسية ملكية تقوم على أساس حكم تمارسه عائلة معنية استمدت شرعية حكمها من أصول تاريخية مختلفة·
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، النظام المغربي والنظام السعودي· الملك المغربي يطلق عليه أمير المؤمنين، وله صفتان دينية وسياسية في الوقت نفسه· وتؤسس الشرعية السياسية في هذا النظام على أساس إرث الحكم الطويل غير المتقطع، والتقاليد التي تحدد نظام ولاية العهد الذي يكفل الانتقال السلمي للسلطة، وهناك تفصيلات متعددة تاريخية وواقعية تتعلق بنظام الحكم المغربي لا مجال للخوض فيها، وإن كان قد درسها بشكل متعمق باحث أميركي في العلوم السياسية في رسالته للدكتوراه ونشرها باسم أمير المؤمنين · غير أن جوهر هذا النظام وأساس الثقافة السياسية السائدة هو ضرورة طاعة الملك وتقديسه في الوقت نفسه، ومنع العيب في ذاته الملكية، غير أن ذلك لم يمنع في الواقع من قيام أحزاب سياسية