هذه أمة مبتلاة بمثقفيها وليس فقط بسياسييها· فمنذ بدايات القرن الماضي يتبارى بعض هؤلاء في عملية تقليد بليد لكل هبة فكر أو شعار تأتي من الشاطئ الغربي·
حدث هذا بالنسبة للفهم الخاطئ لمفاهيم القومية والاشتراكية والليبرالية والحداثة والديمقراطية حتى اذا ما سقط هذا المفهوم أو أسيئ تطبيقه انكشفت عملية التقليد عندنا برمتها وهوت الأمة في وديان الاضطرابات الذهنية والشكوك والضياع كما هو حاصل اليوم.
اليوم تعود حليمة الى عادتها القديمة ، وفي حقل يرتبط به مستقبل الأمة: حقل السياسة· إذ من المعروف أن ممارسة السياسة في العصر الحديث تتطلب ثلاثة مرتكزات· المرتكز الأول يتمثل في وجود فلسفة تبين الأهداف والقيم الكبرى التي تسعى الممارسة السياسية لتحقيقها في المجتمع· المرتكز الثاني يتمثل في وجود مؤسسات سياسية منظمة تتبنى تلك الفلسفة وتناضل من أجل الوصول إلى تحققها في الواقع· المرتكز الثالث يتمثل في وجود مجتمع مدني تجيشه القوى السياسية وتتعاون معه· هذه البديهيات التي استقرت عليها أدبيات السياسة الحديثة منذ أكثر من قرنين يود بعض مثقفينا أن يتخلوا عن المرتكز الأول منها منضمين بذلك الى بعض مجانين ما بعد الحداثة في الغرب· ففي كل محفل يقف هؤلاء لمهاجمة الأيديولوجية (الفلسفة) في الحياة السياسية، بدعوى أننا شبعنا نظريات وقيما لا تمت بصلة إلى الواقع· لكن هؤلاء ينسون الحقائق التالية :
أولا: أن المجتمع العربي لم يدخل بعد عصر الحداثة في الممارسة السياسية، وعلى الأخص الممارسة الديمقراطية ، حتى يبدأ بتبني بعض منطلقات ما بعد الحداثة والعولمة المنادية بعدم ارتباط الفرد بأية جماعة أو إيديولوجية وبالاعتماد التام على نفسه·
ولا يخفى أن الهدف هنا هو استفراد المؤسسات الاقتصادية الدولية الكبرى ومؤسسات الفكر والثقافة التابعة لها بالإنسان للتلاعب بفكره وعواطفه لتكون طيعة في جعله حيواناً مادياً استهلاكياً ، وأنانياً دون أية التزامات تجاه الآخرين· وهو توجه لا يمكن أن يصلح في مجتمعات تحتاج إلى التعاون والتكاتف لتحقيق الحدود الدنيا من متطلبات أفرادها في الأمن والعيش بكرامة والهوية العقيدية والثقافية·
ثانياً: أن الغرب نفسه بدأ يدرك أنه بدون فلسفة سياسية (إيديولوجية ) هناك خطر كبير على الممارسة الديمقراطية نفسها· إذ أن غياب مرجعية قيمية وأهداف مجتمعية في الحياة السياسية سيقود الى تنافس بين القوى السياسية مبني على الغلبة وحدها، أي تصارع الغاب حيث الغلبة للقوي مهما كان ذلك مبنياً على ظلم الآخرين واستلاب حقوقهم الحياتية·
ثالثاً: أن الأيديولوجيات هي كائنات فكرية حية ينطبق عليها كل ما ينطبق على الأحياء· إنها تحتاج إلى ان تتعلم من نجاحاتها وفشلها وأن تعدل مساراتها، لكنها يجب ألا تموت ، إذ أن موتها يدخل الحياة السياسية في دوامة العنف والضياع وتسلط مجموعات صغيرة وابتعاد المواطنين عن شؤون حياتهم العامة·
هل يستطيع المثقفون العرب أن يمارسوا الأصالة الفكرية فيتفاعلوا مع الآخر في الغرب دون أن ينسحقوا أمامه كببغاوات مقلدة، وأن يدركوا أن معالجة الغرب لمشكلات الحداثة والتنوير قد لا تكون صالحة للآخرين، ألا يكونوا مستنقع معلومات لكل من هب ودب وإنما نهراً متدفٌقاً بالحيوية والنقاء وتجديد الذات ؟ ليس هذا بالسؤال الأكاديمي· إنه سؤال عن المستقبل.