هل يمكن تحقيق مقدار معقول من التوافق بين السياسة الأميركية وموقف القسم الأكبر في المجتمع الدولي تجاه العراق؟ المعطيات الراهنة تقود إلى ترجيح إجابة سلبية، فثمة مسافة واسعة في شأن قضيتي السيادة على العراق ودور الأمم المتحدة بين الولايات المتحدة من ناحية وقوى دولية كبرى ومعها الدول العربية من ناحية أخرى، فأقصى ما تقبله واشنطن هو الإقرار بضرورة الإسراع بإعادة السيادة الوطنية على العراق إلى شعبه دون أن تلزم نفسها بمدى زمني محدد، وإعطاء الأمم المتحدة مساحة واسعة خلال المرحلة الانتقالية ولكن دون أن تقتسم معها السلطة ناهيك عن أن تعترف لها بالدور الرئيسي ولو من الناحية الرمزية·
ولكن معالجة عربية ودولية مختلفة للأزمة العراقية قد توفر امكانات غير منظورة الآن للوصول إلى توافق مع واشنطن في شأن قضية السيادة· وتبدأ هذه المعالجة بتصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبته هذه الدول في موقفها تجاه مجلس الحكم الانتقالي في العراق عندما رفضت الاعتراف به واستهجنه واستخف به بعضها، فهذا الخطأ هو الذي بات يسند الموقف الأميركي الذي يرفض إعادة السيادة إلى العراق الآن أو بعد شهور قليلة استناداً على عدم وجود هيئة وطنية يمكن نقل السلطة إليها لأن المجلس الانتقالي لا يحظى باعتراف أو دعم عربي ودولي·
فكان هذا هو المنطق الذي استندت إليه واشنطن عندما طلب وفد مجلس الحكم العراقي المشارك في الدورة الثامنة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة البحث في نقل السلطة والسيادة إليه لتسريع عملية إعادة الاستقرار والأمن في العراق·
وهكذا، فبعد أن كانت واشنطن تسعى إلى الحصول على شرعية لهذا المجلس عربياً ودولياً، صارت تشكك الآن في طابعه التمثيلي أي مدى تعبيره عن مختلف أطياف الشعب العراقي، وتستند على عدم اعتراف حتى الدول العربية به لكي تحرمه الصلاحية اللازم توفرها في الهيئة التي يمكن ان تعاد السيادة إلى العراق من خلالها·
والمهم، هنا هو أن واشنطن لم تستشعر حرجاً في هذا التغيير، كي لا نقول التناقض، في موقفها· فقد كان وما زال في امكانها أن تنقل المشكلة إلى الدول التي رفضت الاعتراف بالمجلس الانتقالي وشككت في تمثيله للشعب العراقي، بل رماه بعضها بالتبعية لسلطة الاحتلال·
فكان هذا هو موقف معظم الدول العربية التي اتخذت موقفاً متشدداً ضده عند تأسيسه، وظلت محجمة عن الاعتراف به حتى عندما صار موقفها تجاهه أكثر مرونة فوافقت على أن يشغل مقعد العراق في جامعة الدول العربية، ولكن بصفة مؤقتة وزاد البعض أن هذه العضوية المؤقتة مشروطة أيضاً كما لو أن حضور المجلس في بيت العرب وصمة عار !
وكان هذا هو أيضاً موقف الدول الكبرى التي عارضت الحرب على العراق وفي مقدمتها فرنسا وروسيا· فقد نظرت إلى مجلس الحكم الانتقالي العراقي باعبتاره مجرد هيئة صنعتها سلطة الاحتلال· ورفضت الاعتراف به، وعندما أصدر مجلس الأمن قراره الأول بعد الحرب (القرار 1483) أصرت على الاكتفاء بالإشارة إلى أن المجلس أخذ علماً ورحب بتأسيس هذا المجلس دون الاعتراف به·
وقد وجدت الولايات المتحدة في هذا الموقف العربي-الدولي خير ذريعة تستند عليها في الرد على مطلب الاسراع في إعادة السيادة على العراق لأهله بنقلها إلى المجلس الانتقالي حتى يتيسر إجراء انتخابات وتشكيل حكومة منتخبه، وهل هناك رد أقوى، في أي مجادلة، من تذكير الطرف الآخر بكلامه ورأيه وموقفه وسلوكه؟ وألم يكن المستعدون اليوم لنقل السيادة إلى مجلس الحكم الانتقالي هم الذين شككوا في شرعيته وتمثيليته بل في نواياه انطلاقاً من علاقة بعض أعضائه بالولايات المتحدة؟
وأليس العرب والفرنسيون والروس وغيرهم هم الذين أبدوا شديد قلقهم من طريقة تشكيل المجلس وطريقة اختيار أعضائه قبل أن يكتشفوا متأخرين أنه لا سبيل لاستعادة السيادة من أيدي المحتلين إلا نقلها إلى أي هيئة وطنية ما دام إجراء الانتخابات يتطلب وقتاً غير قصير؟
وألم يكن السفير الأميركي السابق ونائب رئيس معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى حالياً ديفيد ماك محقاً في تعليقه الساخر على ما أبداه مسؤولون فرنسيون من استعداد لقبول نقل السيادة إلى مجلس الحكم الانتقالي عندما قال: إن باريس اتهمت مجلس الحكم من قبل بأنه دمية أميركية، ثم تأتي الآن لتؤيد نقل السيادة على العراق إليه ·
وهكذا، استغلت واشنطن موقفاً متعجلاً اتخذته الدول العربية وقوى دولية كبرى تجاه المجلس الانتقالي العراقي وجعلته ذريعة للتسويف في إعادة السيادة على العراق إلى أهله، وهكذا، أيضاً يقود الموقف غير المدروس وغياب الرؤية، إلى أسوأ النتائج·
وقل مثل ذلك، بشكل أو بآخر عن موقف الدول العربية ومعها الدول الكبرى نفسها تجاه العمليات المسلحة التي بدأت ضد قوات الاحتلال ولم تمض أيام حتى أصبحت موجهة ضد العراقيين وأنابيب نفطهم وشبكات مياههم التي يشربون منها، فضلاً عن مقر وموظفي الأمم المتحدة الذين ذهبوا ليس فقط لمساعدتهم ولكن أيضاً للمشاركة في خلق ظروف تحقيق هدف تقصير أمد الاحتلال واستعادة السيادة·
فهذه ا