بات من الواضح الآن كيف دخلنا في الفوضى التي نواجهها في العراق، وإليكم أسبابها: الطموحات المتغطرسة، والمؤيدون المتحمسون الذين كانت لديهم كل الأجوبة قبل أن يطرحوا أية أسئلة، والاعتقاد الراسخ بأن الأمم الأخرى سوف تشايعنا وتحذو حذونا- سواء أعجبها الأمر أم لم يعجبها- وذلك بسبب ما نتمتع به من قوة···والقبول الساذج لرواية المنفيين التي وعدتنا بأننا سنلقى استقبالاً بالعناق كمحررين، كما وعدت بأن المنفيين سيحظون بالتتويج على كراسي السلطة بأيدي السكان الذين ولدوا بعد أن غادر أولئك العراق إلى منفاهم، ورفض عنيد للإصغاء إلى أشخاص مثل الجنرال إيريك شينيسكي الذي قال إن السلام سيكون أصعب من الحرب· إن في ذلك إغراءً لأولئك الذين عارضوا مشروع المغامرة في الأصل- أو الذين تفرجوا علينا وهم يشعرون بخيبة الأمل ونحن نتحول من حملة عسكرية متألقة إلى سلام تكتنفه الشكوك والريبة دون وجود خطة أو استراتيجية معقولة، فرفع أولئك أيديهم وقالوا لنا: هيا قوموا بتقليص خسائرنا·
لا بد من الإجابة على التساؤلات· لكننا لا ننعم برفاهية تتيح لنا التقهقر وكيل الاتهامات المضادة· وكانت خسائرنا المحتملة فادحة إذا أخفقنا، وذلك في نظر من كان منا يظن أن المغامرة تستحق الجهد والبذل إذا جرى تنفيذها على نحو صحيح وكذلك في نظر أولئك الذين عارضوا المغامرة: فإذا نجحنا صار في وسعنا أن ننشىء في العراق مجتمعاً مستقراً مجدِّداً ويسوده التسامح، وهو أمر من شأنه أن يكون له تأثير في كل المنطقة المضطربة ذات الوضع الحرج· وإذا فشلنا، فإن العراق سيهبط بكل سهولة إلى درك الفوضى والراديكالية، وهو أمر من شأنه أن تكون له عواقب شديدة في المنطقة وفينا تمتد على مدى حياة جيل أو أكثر من جيل·
وقد شرعت الإدارة الأميركية في تنفيذ استراتيجية شديدة المخاطر- وتقضي بأننا قادرون على إصلاح العراق على نحو أفضل وأسرع مما في وسع الآخرين- وذلك على أمل أننا سنفوز في السباق الجاري بين التحسين الدراماتيكي على الأرض ونفاد صبر الشعب الأميركي عندما أدرك أننا وحيدون بوجه عام في هذه الورطة· لكن نجاحنا في العراق يقتضي منا وجود استراتيجية مستدامة على المدى الطويل؛ ذلك أن إعادة إعمار العراق، كما قال الآخرون، إنما هي ماراثون ، وليست السباق القصير السريع الذي افترضته الإدارة الأميركية·
ولا بد لاستراتيجية كهذه أن تبدأ بإدراك حصيف للتحديات· فالوضع الأمني في العراق بات خطيراً، لا سيما في المناطق التي تهيمن عليها الطائفة السنية؛ وقد تكون المقاومة متركزة بين الإرهابيين الأجانب وأنصار صدام حسين والموالين له، غير أنها تبقى مقاومة من الممكن احتمالها إذا لم يؤيدها العراقيون العاديون الذي سئموا الاحتلال، وإذا لم يغذها انعدام الشعور بالأمان الشخصي إلى جانب الافتقار إلى الخدمات الأساسية· ويحذر المسؤولون العسكريون الأميركيون والبريطانيون من أننا قد لا تكون أمامنا إلا مهلة قدرها شهر أو شهران لإحداث تحول كامل في الأوضاع قبل أن تنتشر المقاومة وتتحول إلى عصيان شعبي·
وتتجسد نقطة البداية الأساسية، الهادفة إلى منع تحقق هذه النتيجة، في تقليص ظهور الأميركيين على واجهة الاحتلال، وفي الموافقة على أننا، على الجانب العسكري، نحتاج إلى التحول إلى قوة متعددة الجنسيات تصادق عليها الأمم المتحدة وتعمل بإمرة قيادة أميركية· غير أننا على الجانب المدني، لا بد لنا من التنازل عن السيطرة وذلك مقابل الحصول على مشاركة الآخرين لنا في حمل الأعباء ولتحقيق قدر أكبر من الشرعية في العراق· ولا بد لنا هنا من حل سلطة التحالف المؤقتة، ثم دمجها في طيات عملية دولية ترأسها كوادر غير أميركية من أشخاص جديرين بالاحترام ويتمتعون بالمقدرات والمؤهلات·
إننا الآن نطلب من شركائنا تقديم الأموال والجنود والمشاركة، ما دام ذلك يستوفي شروطنا· وبتنازلنا عن السيطرة الحصرية على الجانب المدني، سوف نكتسب قوة وفاعلية للضغط على الأوروبيين والعالم العربي والآخرين لبذل الجهد والمشاركة· وحتى إذا كانت هناك قلة قادرة على حشد تشكيلات عسكرية كبيرة في الميدان لمطاردة القتلة في العراق، فإن في وسعهم توفير القوات لحراسة الحدود وحمايتها من تسلل الارهابيين وحماية البنية التحتية ذات الأهمية الحساسة· وهناك الكثير من حلفائنا قادرون على نشر قوات الشرطة والمراقبين والمدربين، وهي عناصر ذات أهمية بالغة في ترسيخ القانون والنظام في المناطق الحضرية من العراق· كما يستطيع جميع حلفائنا المساعدة في تحمل نفقات البنية التحتية الباهظة·
غير أن عملية التدويل ليست كافية، ذلك أن بالدرجة ذاتها من الأهمية هناك تعزيز قدرة العراقيين على إدارة ومراقبة شؤونهم· ويدور الجدل الحالي حول توقيت إعادة السيادة إلى العراقيين، وهو جدل يقدم خياراً زائفاً: ذلك أن فرنسا (المدعومة من شخصيات عراقية رئيسية) تصر على إعادة السيادة الكاملة إلى العراقيين على الفور، ليتبعها وضع مسودة الدستور ثم انتخاب حكومة جديدة· وترى الإدارة الأميركية أن وضع مسودة الدستو