منذ ما يقرب من نصف قرن وأنا أتردد على مدينة (لندن) بإرادة ومحبة واستمتاع بما تعطيني إياه مما أبحث عنه· أقضي وقتي هنا بعيدة كل البعد عمن يحكم في ذاك الزمن أو هذا، إن كان حزب المحافظين أم حزب العمال، إلى أن جذبت انتباهي (مارجريت تاتشر) بالهيئة واللسان والسلوك والوقع الذي أتمنى دوماً أن أرى فيه امرأة·
وما أن أعقب ذلك حكم العمال بقيادة الشاب توني بلير حتى عظم احترامي لهذه الدولة العريقة التي آثرت القفز من عراقة الموروثات باتجاه شبابية الحداثة تماشياً مع متطلبات الزمن الذي نعيش· ولعل اختيار الدكتور ديفيد بلنكيث وزيراً للتعليم -وهو الرجل الضرير- وتم تسليمه حقيبة وزارة الداخلية في زمن تتعقد فيه القضايا الأمنية، الدليل الأعظم على الفهم والاعتراف بتقدم البصيرة على البصر، وأن الإنسان عقل يفكر ومخزون علمي، وأية إعاقة خارج تجويف الرأس ما هي إلا مظهر لا يؤثر في عطاء الإنسان إن تمكن من كفاءته ومهارته وعلمه·
هذا الرجل كان ضيفاً على برنامج (الإفطار مع ديفيد فروست) الذي يقدم صباح كل أحد· ولم يخرج الموضوع في الحوار عن أساليب التعامل الأمني مع القضايا المستجدة على الساحة في مواجهة الجريمة، إلا إلى التعريج على المعالم العامة لسياسة العمل التي تعلن دوماً لإعطاء الشارع آذاناً صاغية والتأكيد على حرية التعبير بأية وسيلة متاحة. فإلى أين تذهب هذه الآذان بما تسمع والحكومة ما زالت تتجه نحو خط معاكس في التقارب المبالغ فيه مع أميركا خاصة فيما يخص حرب تحرير العراق؟ والذي أعقبه انتحار العالم البريطاني (كيلي) الذي كان الحجة المدافعة والشهادة على وجود أو عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق!!!
يبتسم ديفيد بلنكيث نصف ابتسامة ويقول: نعم.. هذه حقيقة نحن نسمع ونستمع، لكن الشارع يتحدث عن اليوم، ومهمتنا تتعدى ذلك إلى التخطيط إلى للمستقبل وأن نسمع كلمة الشكر مؤجلة خير من أن نسمعها اليوم ونحاسب عليها في الغد.
لقد احتار فروست في التعليق واكتفى بالابتسام، وهكذا صنعت واكتفيت بالإعجاب بتلك القدرة التي اختصرت العلاقة ما بين الرأي العام ومؤسسة الحكم حول مسؤولية الأول الممثل بكل الأجهزة الإعلامية ومسؤولية الآخر الممثل للسلطة السياسية وتوابعها التنفيذية مما يجعل المؤسسة التشريعية تحار في مهمتها الرقابية ما بين الطرفين.
هذا الأمر أخذني قسراً إلى وضع مجلس الأمة الكويتي ومحاولات على المستوى الفردي أو التكتلي لاختراق الطرفين من أجل تأليب أحدهما على الآخر، أو نصر أحدهما على الآخر. حتى يتمكن النائب أو الكتلة النيابية ككل أو المجلس بكامله كهيئة تشريعية، يتمكن من لعب الدور القيادي بدعم من الرأي العام في وجه الحكومة، أو بدعم من الحكومة في وجه الرأي العام.
ومثله تكون الحكومة في الطرف الآخر تتعايش مع المجلس في حركة الرأي العام مما يسبب الإرباك للنائب الذي ينشطر جهده ما بين منطقته الانتخابية، ولا أظنه ينكر بأن لها (الأولوية) على الوطن بشموليته وبين ادعائه - الذي يقرب أحياناً من الزيف - بتقديم الوطن وقضاياه على المنطقة.
وحده، المواطن الكويتي يشهد هذا ويشهد عليه بمتعة لا تنقصها المنغصات، ويتمنى كل يوم أن تنصرف الحكومة إلى التفكير والتخطيط باتجاه المستقبل دون التأثر بما يدور على الساحة من مزايدات نيابية بحجة كونها تمثل مناطقها، وينصرف المجلس إلى مهمته التشريعية بتعديل ما يمكن تعديله من قوانين عفا عليها الزمن واستحداث ما يناسب الحاضر والمستقبل، ويترك للرأي العام التحرك الحر في نقد الطرفين· فالطرفان بحاجة ماسة إلى النقد الإيجابي الحر دون التأثر العاجل كردة فعل.
فهل نتعلم؟