من أسباب القوة الإسلامية أن هذا الدين قد وسع كل المقرين بالشهادتين، المصلين إلى القبلة، الجامعين للإيمان بالأركان الخمسة· وفي صحيح الحديث النبوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله · وأنه -صلى الله عليه وسلم- قال ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة (رواهما مسلم في صحيحه)·
ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته باب الاجتهاد، على مصراعيه، بما قرره الحديث الصحيح من أن المجتهد إذا أصاب الحق كان له أجران، وإن أخطأه -وهو مجتهد- كان له أجر واحد، أصبح الإسلام الحنيف هو المنهاج الوحيد في الدنيا الذي يطلب من أتباعه إعمال عقولهم فيما نزل الوحي به لفهمه، وتطبيقه، والاجتهاد في طاعة الله على وفقه، ويبشرهم، عند إدراك تلك العقول صواباً بأجرين، وعند وقوعها في خطأ بأجر واحد· وهو الأجر الذي يستحقه العامل المخلص في عمله وإن لم يحقق النتيجة التي رجاها أو الغاية التي قصدها· ومن هنا تنوعت مذاهب المسلمين في تفسير القرآن الكريم، وفي الفقه وأصوله وفي فهم العقائد الإسلامية والتعبير عنها، وفي شروط الرواية وقواعد الدراية في المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي غير ذلك مما شمله العلم الإسلامي في شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد وغيرها·
وكان من عجائب الانتماء إلى الإسلام أن أحداً من العلماء، الذين يعتد برأيهم، لم يكفِّر أحداً من مخالفيه بمجرد المخالفة، وأن النقاش العلمي والديني كان يبدأ دائماً بطلب الهداية إلى الحق من الله تعالى، وينتهي بقول العالم -أيا كان مجال علمه، أو انتماؤه المذهبي- والله أعلم ؛ في إشارة واضحة إلى أن ما يقوله ليس كلمة الفصل ولا نهاية القول في موضوع البحث أو الخلاف·
وكما اتسعت الصفحة الإسلامية للتنوع الفقهي والعلمي، اتسعت للتنوع في طرق التربية الإسلامية التي تستهدف ربط المسلم بربه، وترقيق قلبه، وترقية روحه، والسمو بوجدانه، والتخفيف من غلوائه إذا أعجب بنفسه، وتذكيره بالآخرة إذا أخذته الدنيا بزخرفها، وتخويفه إذا اطمأن لئلا يترك العمل الواجب عليه، أو المندوب إليه، وطمأنته إذا خاف لئلا تغيب عنه صفات الرحمن الرحيم غافر الذنب وقابل التوب الذي يفرح بتوبة العبد -كما جاء في الحديث- أكثر مما يفرح صاحب الدابة إذا ضلت منه في الصحراء حتى تيقن أنه هالك لا محالة، ثم وجدها فأمن وسَلِمَ!
وكان من المناهج التربوية الإسلامية منهج الصوفية الذين غلب عليهم هذا الاسم حتى أصبح كاللقب لهم، وهو لا يشهد له من حيث اللغة العربية قياس ولا اشتقاق (الرسالة القشيرية، ص126)، وحاصل منهجهم -كما يقول الشريف الجرجاني- هو الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً فيحصل للمتأدب بها كمال· وهو مذهب كله جد فلا يخلطونه بشيء من الهزل ··· وهو يتضمن وجوب النصح لجميع الأمة، والوفاء لله تعالى على الحقيقة، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشريعة··· (التعريفات ص68؛ والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 180)·
وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الصوفية ظهرت أول الأمر في البصرة، التي كان فيها من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار (أي المدن الإسلامية، أو الأقطار) واشتهر الفقه بالكوفة والتصوف بالبصرة(!) وقال ابن تيمية: كان فيها من يسلك من طريق العبادة والزهد، ما له فيه اجتهاد كما كان في الكوفة من يسلك من طريق العلم والفقه ما له فيه اجتهاد··· ولأجل ما وقع من كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه، تنازع الناس في طريقتهم··· والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أولا يتوب· ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاصٍ لربه· وقد انتسب إليهم جماعة من أهل البدع والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف هؤلاء ليسوا منهم··· (الفتاوى ط دار الوفاء، المجلد 11ص 13-14)·
وأخونا العلامة الشيخ يوسف القرضاوي يرى أن الصوفية سدوا فراغاً لم يستطع أن يشغله المتكلمون، ولا أن يملأه الفقهاء، وصار لدى الناس جوع روحي، فلم يشبع هذا الجوع إلا الصوفية الذين عُنُوا بتطهير الباطن قبل الظاهر، وبعلاج أمراض النفوس، وإعطاء الأولوية لأعمال القلوب، وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية والأخلاقية، وصرفوا إليها جل تفكيرهم واهتمامهم ونشاطهم؛ حتى قيل: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف··· وقد دخل على أيدي الصوفية المتَّبعين كثير من الناس في الإسلام، وتاب على أيديهم أعداد لا تحصى من العصاة، وخلفوا وراءهم ثروة من المعارف والتجارب الروحية لا ينكرها إلا مكابر، أو متعصب عليهم (فتاوى معاصرة، جـ1 ص- 778)·
والنزاع قديم