في افتتاح الجمعية العامة الثامنة والخمسين للأمم المتحدة يوم 23 / 9 / 2003 ثلاث خطب مهمة: كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة والرئيس الأميركي جورج بوش الابن والرئيس الفرنسي جاك شيراك· وقد نعى الأول عدة مبادئ ومقاصد نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وذلك اجهاضاً منه لمبدأ الحرب الاستباقية الذي ينادي به الرئيس بوش ويعتمده في سياسته الخارجية·
وكان الرئيس الأميركي بوش أعلن في وثيقة سابقة (استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة) أصدرها في 20/9/2002 تخليه نهائياً عن سياسة الردع والاحتواء وتبني مبدأ الحرب الاستباقية وبخاصة بعد أحداث 11/9/2001 ضد الدول التي تطور أسلحة تدمير شامل أو ترعى أو تؤوي منظمات إرهابية·
وأعلن الرئيس بوش أيضاً أن الولايات المتحدة ستستخدم تفوقها العسكري والاقتصادي والسياسي من أجل التأثير على سياسات الدول الأخرى·
وتدعو الوثيقة التي مر عليها أكثر من عام إلى اعتماد سياسة داخلية وخارجية صدامية وعدوانية·
وهكذا بدأت الادارة الأميركية حربها ضد العراق بعد أفغانستان وجربت فيه ترسانة أسلحتها الحديثة، بعد أن احتلت العراق وخربت بنيته التحتية وثرواته وبعد أن فشلت جميع جهودها في إيجاد أي أثر من آثار أسلحـــة التدمير الشامل -التي كانت ذريعة شن الحرب- فكان لابد لها من أن تلوم وتهدد الدول المجاورة، وخاصة سوريا، بغية التغطية على انحيازها المطلق لإسرائيل واحتلالاته واستعمارها الأراضي الفلسطينية والشعب الفلسطيني·
ولا تكمن مأساة الإنسانية في التعبير عن الذات الامبراطورية الأميركية بقدر ما تكمن في أوجه النضال ضد هذه القوة الكاسحة التي تريد أن تتجاوز القانون الدولي وأن تسخره تجاوزاً في الوقت نفسه من أجل التوسع والاحتلال ·لقد كانت حرب الإدارة الأميركية ضد أفغانستان والعراق من أجل وضع اليد على الثروات النفطية والطبيعية في بحر قزوين والشرق الأوسط تحت شعار محاربة الإرهاب والتجريد من أسلحة التدمير الشامل وإهارة (إسقاط) النظامين الديكتاتوريين، إلى جانب تغيير الخريطة الاستراتيجية لمنطقة المشرق العربي ولهذا بدأت التهديدات تترى على سوريا وإيران، وبرز مشروع خريطة الطريق لتسوية القضية الفلسطينية وهي أهداف تكمن وراء احتلال العراق· ولا يعترض إعادة إعمار العراق سوى الخطة الأميركية التي تهدف إلى تعديل البنية الديمغرافية والجغرافية والدينية للشعب العراقي ،و إلى تقسيم العراق إلى مناطق متعددة تدار من قبل سلطات احتلال مختلفة، باشراف الولايات المتحدة· وهذا هو كنه المشروع الأميركي في مجلس الأمن، ذلك المشروع الذي يهدف إلى أن يجعل الاحتلال مشروعاً وقانونياً ويوطن اللاجئين الفلسطينيين في إحدى المناطق العراقية· لهذا كله دعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى تشكيل لجنة تدرس ميثاق الأمم المتحدة وهيكلها· وهي حين تدرس الميثاق، ستدرس أيضاً حالة الدول المصابة بنوع من الذعر والخوف بسبب خشيتها من احتمال العدوان عليها، وهو ما ينقلنا إلى حالات الاحتلال والاستعمار والمقاومة الوطنية ضدهما كما يضعنا في مواجهة أحداث 11/9/2001 والاحتلال الانجلو أميركي للعراق والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأراض عربية أخرى·
ولن يغرب عن بال اللجنة الدولية أن ( مشروع القرن الأميركي الجديد ) الذي تم تأسيسه منذ عام 1997 أقرّ أن المشكلة الرئيسية في الشرق الأوسط هي العراق وليس الصراع العربي-الإسرائيلي، وأن إسرائيل طبقت القرار 242 لهذا فإن أمن إسرائيل سيتعرض للخطر إن هي انسحبت من الضفة الغربية والجولان·
ولن يغرب عن فكر اللجنة الدولية أيضاً تلك الحكاية الطريفة التي تروى عن الخليفة الفاطمي المعز لدين الله حينما سلّ نصف سيفه من غمده، عندما دخل عليه بعض القوم، وقال (هذا نسبي) ثم نثر عليهم بعض الذهب وقال (هذا حسبي)· لقد بدأ الخليفة الفاطمي حكمه بسلاحي الترهيب والترغيب ·و الإدارة الأميركية تستعمل اليوم هذين السلاحين معاً، وهي مع إسرائيل التي تستخدم سلاحاً وحيداً فقط هو الترهيب· فبقدر ما تتشدد إسرائيل في احتلالها واستعمارها واستعمالها السلاح، بقدر ما تفتح لها الإدارة الأميركية خزائنها لتأخذ المال والسلاح والتكنولوجيا بالشكل الذي تريد، معتبرة إياها مرشدتها في مبدأ الحرب الاستباقية.